Logo
طباعة

متى تسقط أمريكا؟

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قبل الحرب العالمية الأولى لم تكن الولايات المتحدة قد دخلت في نادي الدول الكبرى، حتى إنه لم يسمح لها بفتح سفارة لها في عاصمة الخلافة العثمانية وكانت لها قنصلية فقط، ولم يذكر أن السلطان عبد الحميد رحمه الله قد سمح للقنصل بمقابلته، وكانت الأعراف الدبلوماسية لا تسمح إلا للدول الكبرى بفتح السفارات.
دخلت الولايات المتحدة إلى حلبة الصراع على العالم القديم بعد أن رجحت كفة المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وكان عليها أن تنتظر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حتى تتصارع بأشد ما يكون الصراع على المغانم والنفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري، ولم تعد تكتفي بالعالم الجديد.


وأخذ دور الدولة الأولى (بريطانيا) يتقهقر، وإن استطاعت هي وفرنسا تقسيم أملاك الدولة العثمانية بينها، وإسقاط دولة الخلافة وتمكين اليهود من فلسطين، وإقامة دويلات قومية ووطنية تابعة للاستعمار في بلاد المسلمين، إلا أن علامة الضعف بدأت مع عدم قدرة بريطانيا على المحافظة على عملتها كعملة معترف بتداولها عالميا بجانب الذهب، بالرغم من محاولة تشرتشل التي فشلت نهائيا سنة 1930 وقد أشبعه مينارد كينز نقدًا لاذعا لذلك، ويعود الفضل لنظريات مينارد كينز في الاقتصاد الرأسمالي لخروج الولايات المتحدة من أزمة الكساد الكبير الذي ألمّ بها سنة 1929، واستمر الاعتبار لنظرياته إلى نهاية سبعينات القرن العشرين.


وجاءت الحرب العالمية الثانية وظهرت مع نهايتها هيمنة الولايات المتحدة على العالم الغربي وبرز الاتحاد السوفييتي على رأس المعسكر الشرقي منافسا لها، وقد سحقت فرنسا في تلك الحرب، وتراجعت بريطانيا تدافع عن مناطق نفوذها أمام الولايات المتحدة. إن الحرب العالمية الثانية كانت نصرا حقيقيا للولايات المتحدة الأمريكية، وقد خرجت من الحرب وهي أقل البلاد خسارة وأوفرها إنتاجا وأعظمها قوة وأكثرها نفوذا في العالم، وكان إنتاجها السنوي يساوي 40% من الإنتاج العالمي، وبدأت بإعادة إعمار أوروبا المحطمة وأصبح الطلب شديدًا على السلع الأمريكية، ونشأ عن ذلك قبولٌ دوليٌّ للدولار، وأصبح يستخدم كعملة عالمية.


وأن يكون الدولار هو العملة العالمية، مكسب لا يقدر بثمن للولايات المتحدة فهي تطبع وتشتري بهذه الدولارات ما تشاء ولا يكلفها ذلك إلا ثمن الورق والطباعة - خصوصا بعد إلغاء ربط الدولار بالذهب - وبقية العالم ينهمك ويدفع أصولا وخدمات، لأجل الحصول على الدولار لأن حيازته مطلوبة من الجميع لشراء السلع والخدمات المختلفة.


وجيوشها تحتل أوروبا الغربية واليابان وجنوب شرق آسيا وشمال أفريقيا، وأصبحت بريطانيا وفرنسا عالة عليها، وأصبح الدولار الأمريكي العملة العالمية بدون منازع، وربطته بالذهب إمعانا منها بإظهار قوتها وتعزيزا لمكانتها بين الدول، وأخذت دول العالم تحتفظ به عملة احتياطية، وأصبحت البضائع الأمريكية مطلوبة في جميع أنحاء العالم، عندئذ دعا موجّهو السياسة الأمريكية لطرد الاستعمار القديم، المتمثل بفرنسا وبريطانيا، من مستعمراتها والحلول مكانها، وصدرت من بعض منظري السياسة الأمريكية أصوات في بداية خمسينات القرن العشرين تعلن بداية القرن الأمريكي، بمعنى أن الزعامة والهيمنة على العالم لأمريكا، وقد تزعمت أمريكا العالم الغربي في الحرب العالمية الثانية، وقادته إلى الانتصار على دول المحور، وأنشأت بعد ذلك حلف شمال الأطلسي، ونشطت بإعمار أوروبا الغربية، لتقف سدا منيعا أمام الزحف الشيوعي حليف الأمس، وقد كانت استحدثت قانون التأجير والإعارة أثناء الحرب العالمية الثانية لتتمكن من تزويد الاتحاد السوفييتي تحت غطاء هذا القانون بما يحتاجه من الأسلحة والمعدات الحربية والسلع الاستهلاكية ليقف أمام الجيوش الألمانية الزاحفة لعقر داره، ولم تصغِ لخبث بريطانيا وفيلسوفها برنرت روسل لضرورة إكمال الزحف إلى موسكو والقضاء على الشيوعية، وذلك بعد احتلال ألمانيا النازية، ولم تكن أمريكا عند ذلك الوقت قد أجهزت على اليابان، وكانت تلك الدعوة محاولة من بريطانيا لتوريط أمريكا بحرب ضروس مع الاتحاد السوفييتي لإنهاكها، وحتى لا تلتقط أنفاسها من الحرب العالمية الثانية، وكانت بعض الشركات الأمريكية قد بنت مجمعات صناعية في الاتحاد السوفيتي إبان الأزمة الاقتصادية المعروفة بالكساد الكبير في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، وهذا أمر لا يستبعد من النفعية الرأسمالية، فهي تسعى للحصول على المكاسب وتستجيب للمتغيرات لتعظيم مكاسبها والمحافظة على استمرار بقائها، وقد طاردت الاستعمار القديم وحلت محله في بعض بلاد المسلمين، رغم أنهم جميعا من معسكر واحد وحلفاء الأمس واليوم واستغلت الشعارات القومية التي اخترعها سابقوها، وزادت عليها الاشتراكية والتحرر من الاستعمار، والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لتصنع عملاء لها يحكمون المسلمين تحت تلك الشعارات الهلامية، ويكيلون المسلمين بشتى أنواع الظلم والتنكيل، ويظهرون ـ رغم القمع والاستبداد والبطش بشعوبهم ـ بأنهم المنقذ العظيم الذي طال انتظاره.


وحين ظهرت الاشتراكية والشيوعية في الحياة السياسية في أوروبا، أحست كثير من الدول الأوروبية بخطر هذه الدعوة عليها، فتبنى بعضها بعض الإجراءات الترقيعية للرأسمالية مثل التأمينات الصحية والضمان الاجتماعي والعمالة الكاملة، لكبح تطلعات العمال إلى بريق الشيوعية والاشتراكية، الذي لفت نظر كثيرٍ من الناس، ووجد رأيٌ عامٌّ عند الشعوب الرازحة تحت ظلم الرأسمالية مما اضطر الدول الرأسمالية لإجراء بعض الإصلاحات التي تحد من غلواء وجشع الرأسمالية، إلى أن وصلت أوروبا إلى دولة الرفاه، ولم تحقق الشيوعية ربع ما حققته الرأسمالية من الرفاه، بل لم تستطع البقاء على قيد الحياة وتسد رمق الناس فسقطت. وحين سقطت الشيوعية وما يمثلها من دول، انقلب المعسكر الغربي أوروبا الغربية والولايات المتحدة على دولة الرفاه وانفلت الوحش الرأسمالي الكاسر من عقاله وحطم القيود والعوائق التي كانت تكبح جماحه ولم يطل هيجانه، وانكسح في حمأة فساد نظامه الاقتصادي وانتكس في أزمة الديون السيادية وأزمة الرهن العقاري.


وقبل ذلك يقف بوش الأب خطيبا في الكونغرس الأمريكي مزهوا بنشوة النصر المزعوم بعد أن حشد ثلاثين دولة لحرب العراق من ضمنها سوريا ومصر، ويعلن أن بريطانيا حكمت وشكلت العالم في المئة عام السابقة، وأمريكا ستحكم وتشكل العالم في المئة والخمسين عامًا القادمة، لينتهي هذا الحلم تفرد أمريكا بقيادة العالم والتحكم به قبل نهاية حكم بوش الابن، ولم يستمر ذلك الحلم إلا لبضع سنين وقد أكمل الابن حكمه البائس بأسوأ أزمة اقتصادية تحيق بالنظام الاقتصادي الرأسمالي وتكشف عواره.


وكانت الأزمات الاقتصادية تحدث تباعا في هذا النظام وكانت أشدها التي بدأت بأزمة الرهن العقاري لتستمر بالديون السيادية في أوروبا، والتي بانت أنها أزمة نظام فاسد كانت قد أخفت الحروب والصراعات بين الشعوب والأمم فساده لردح من الزمن، أما الآن وقد خلا المكان إلا منه ومن سيطرة أهله، فقد بان عواره وفساده كنظام، أوصل غالبية البلدان الرأسمالية نفسها إلى حد الإفلاس، والاتحاد الأوروبي بشكل خاص تحوم الشكوك حول استمرار وحدته النقدية التي كانت في أصلها قرارا سياسيا وليس اقتصاديا، حيث إن البنوك المركزية والجهات الاقتصادية والمالية لكل دوله هي التي ترسم وترعى السياسة الاقتصادية لكل منها على حده، والبلاد المنتجة مثل ألمانيا وفرنسا ترى في بقية البلاد أسواقا استهلاكية مضمونة لبيع منتوجاتها، والبلاد الفقيرة نسبيا ظنت أنها وجدت مُحسنا لا ينضب إحسانه لتخفي فقرها في ثنايا عطفه وإحسانه، وبريطانيا خبيثة وطفيلية كعادتها إذا لم تأخذ ما تريد فهي ترمي العصا أمام الراعي، فهي لا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه لا تريد الدخول في منظومة اليورو وتعطل أي اقتراح لا تجد فيه فائدة لها، فهي تبحث عن المغانم والمكاسب السياسية والاقتصادية دائما، وبشكل خاص تبحث عما يمكن أن تجنيه من مكاسب سياسية واقتصادية من عضويتها في الاتحاد الأوروبي.


وأمريكا لا تكف عن تحريك وتوجيه مريديها في أوروبا لتعطيل انفكاكها عن الركب الأمريكي، وقد فرضت فهمها للاقتصاد الحر على الشركات والدول الأوروبية وصدرت أمريكا أزمتها الاقتصادية للكل بقدر ارتباطه بها واتباعه لسبيلها.


وكان لرفع القيود أي قيود كانت عن اقتصاد السوق، والعودة إلى (دعه يمر دعه يعمل)، ما سرع ووضح فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكانت النشوة قد أخذت أمريكا وبقية المعسكر الغربي بسقوط الاتحاد السوفييتي وما يمثل من أفكار، وصدح بعض الأمريكان معلنا العصر الأمريكي وانتصار الرأسمالية مستندا في ذلك إلى بعض العوامل مثل:


- أن الدولار هو عملة التعامل الأساسية في العالم وهو عملة التسعير للسلع الأساسية مثل النفط وغيره من المواد الأولية.


- اتخاذ الدولار عملة احتياطية لغالبية دول العالم.


- الدين الأمريكي أكثر أدوات الدين تداولا في العالم (سندات الخزينة الأمريكية) رغم المديونية العظيمة وكمية النقد الهائلة التي تتداول بين الناس (السيولة النقدية).


- إصدار الدولة للدولار بدون حسيب ولا رقيب.


- ضخامة الشركات الأمريكية (العابرة للقارات).


- النفوذ السياسي والقوة العسكرية التي لا يدانيها أحد.


لقد تم إقصاء النظريات الاقتصادية الكينزية واتباع الرأسمالية الليبرالية منزوعة الضوابط، إلى أن جاءت أزمة الرهن العقاري وما تبعها من أزمات مالية ومديونية أوصلتهم إلى قبل إعلان الإفلاس وإلى الحيرة في كيفية معالجة هذه الأزمة.


إن الاستدانة عند الدول الرأسمالية أمر طبيعي، وقد توسعت فيها الدول التي تطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي في العشرين سنة السابقة، وتم وضع الحد المقبول من الدين بأن لا يتجاوز 62% من الناتج الإجمالي المحلي للدولة المعينة، وفي العادة تقوم الدولة بإصدار سندات حكومية وتبيعها في الداخل والخارج - وذلك يتم حسب مكانتها الاقتصادية - وتقترض من الخارج من المؤسسات المالية ومن بعض الدول ذات الميول الاستعمارية، ومن الداخل من البنوك والمؤسسات المالية.


هذا بشكل عام، أما الولايات المتحدة بالذات فإنها تقوم بإصدار سندات حكومية وتبيعها في الداخل والخارج، وتقترض من الداخل من أموال صناديق الضمان الاجتماعي والتقاعد التي تحصلها من الناس، وقد بلغت الديون الأمريكية في نهاية عام 2012 ستة عشر ترليون دولار وأربعمائة مليار مما يشكل 120% من الناتج الإجمالي المحلي لها، وتلجأ الدول الرأسمالية لمعالجة ارتفاع مديونيتها بخفض الإنفاق الحكومي ورفع نسبة الضرائب على الناس، وهذه الإجراءات تؤدي إلى انخفاض الناتج الإجمالي المحلي (الانكماش) وترفع نسبة البطالة وتهدد البلاد بالكساد والركود الاقتصادي، لأجل ذلك فإن واضعي السياسة الاقتصادية يأخذون هذه النقاط بعين الاعتبار حين معالجة مديونية الدولة.


تردد في الأيام الأخيرة مصطلح الجرف المالي أو حافة الهاوية، وهذا وصف لحالة الاقتصاد الأمريكي أطلقه بن برنانكي رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، حين قال أمام الكونغرس الأمريكي: إننا نواجه هاوية مالية من ناحية خفض ضخم للإنفاق الحكومي وزيادة كبيرة للضرائب من أول يناير من العام المقبل 2013، ويشير تعبير الهاوية المالية إلى برنامج زيادات ضريبية واقتطاعات في النفقات العامة سيدخل حيز التنفيذ تلقائيا من بداية عام 2013 إذا لم يتم اتفاق بين الكونجرس ورئيس الولايات المتحدة لأجل تخفيض العجز في الميزانية.


ويمكن الإشارة إلى بعض العوامل التي أدت إلى ارتفاع الدين الأمريكي:


• الدولة تطبع الدولار بدون ضوابط


• فك الارتباط بين الذهب والدولار


• المجتمع الأمريكي مجتمع استهلاكي رغم قدرته الاقتصادية الكبيرة


• تخفيض الضرائب التي قام بها جورج بوش الابن في الأعوام 2001-2003 وقد بلغت ترليون وستمائة مليار


• خدمة الدين بلغت ترليون وأربعمائة مليار


• تكلفة حرب العراق وإيران بلغت ترليون وثلاثمائة مليار


• دعم الاقتصاد والمصارف والشركات في الأزمة الاقتصادية


• خفض الضرائب سنة 2010


• برنامج الرعاية الصحية الذي استحدثه أوباما


• الخسائر الناتجة عن الأزمة الاقتصادية منذ 2007 وتأثيرها على الاقتصاد بشكل عام.


في سنة 1971م اضطرت الولايات المتحدة تحت حكم نيكسون إلى التخلي عن ربط الدولار بالذهب ولم تعد تلتزم بضمان استقرار سعر الصرف وتحويل الدولار إلى ذهب حين الطلب، وذلك مع نهاية الستينات من القرن العشرين، حيث بدأ الميزان التجاري الأمريكي يعرف العجز، ومول هذا العجز عن طريق إصدار دولارات بدون غطاء من الذهب، وهذه الدولارات تعتبر دينا على الاقتصاد الأمريكي ولو كان هذا من الناحية النظرية، وكانت الولايات المتحدة قد فرضت رأيها في اتفاقية بريتون وودز، مؤهلة بقوتها العسكرية والاقتصادية وحاجة وضعف بريطانيا وأوروبا لها.


أما اليوم فقد تغيرت الحال:


• وأصبح إنتاج الولايات المتحدة الإجمالي يساوي 20% من الإنتاج العالمي.


• الحيرة تعم منظري الاقتصاد الرأسمالي أي النظريات الاقتصادية الكفيلة بإخراج الاقتصاد الرأسمالي من أزمته الحالية.


• أزمة الدين وعدم وجود وسيلة ناجحة للخروج منها.


• فقدان الثقة بين المستثمرين ومودعي المصارف.


• تدخل الدولة المفرط في الاقتصاد وضخ الأموال للمؤسسات الاقتصادية لضمان استمرار عجلة الاقتصاد.


• الحذر من الدخول في الحروب المباشرة والمغامرات العسكرية.


• انتشار القواعد العسكرية أو نقاط وجود الجيش الأمريكي في العالم.


• ضرورة خفض الإنفاق العسكري.


• تحرك الشعوب الإسلامية ذاتيا وتحسس النهوض من كبوتها لأول مرة منذ إسقاط الخليفة عبد الحميد الثاني رحمه الله.


هذه بعض المؤشرات على بداية سقوط أمريكا، ولا بد للمسلمين من مضاعفة الجهد وتسديد سهامهم إلى رأس الكفر لصرعه وقلع عينيه وكف يديه عن بلادهم، ومن جهة أخرى مخاطبة المسلمين واستثارة تقوى الله عندهم وما توجبه طاعة الله عليهم، باستئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الخلافة بتطبيق شرع الله تبارك وتعالى. وحمل الإسلام للناس كافة، فلا يهدم الرأسمالية أينما وجدت إلا الإسلام.


﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾



كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أبو موسى

 

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.