بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال
أزمة الدولار وارتفاع أسعار النفط والمعادن والمواد الغائية

السؤال: لازالت أزمة الدولار مستمرة, فهو في انخفاض لافت للنظر, وقد تبع ذلك ارتفاع في أسعار النفط والذهب ومعادن أخرى, ثم تبع ذلك أيضاً ارتفاع في أسعار المواد الغذائية, وكل ذلك حدث في سابقة لم يحدث مثلها من قبل من حيث استمرارها وشدتها, وكونها شملت عدة أزمات...
فهل هذه الأزمة هي نتيجة مشكلة اقتصادية فعلية, أو أن أيدي السياسية الأمريكية هي التي حركتها وصعدتها؟
أرجو توضيح ذلك وجزاكم الله خيراً

الجواب:
إن هذه المشكلة لها جانب اقتصادي حقيقي, ولكن دخلت على هذا الخط أيدٍ سياسية صعدت المشكلة, ووسعت مسارها, وجعلتها تأخذ هذا الحجم الذي نراه.
وحتى تتضح الصورة تماماً سنبين كيف نشأت الأزمة, وكيف دخلتها الألاعيب السياسية, ثم كيف أثرت على ارتفاع أسعار النفط والذهب والمعادن, ثم نشوء الأزمة الغذائية.

أولاً: إن هناك أزمة حقيقية في الاقتصاد الأمريكي أثرت على فاعلية الدولار وقوته, وبالتالي أصابه هذا الانخفاض الشديد, وقد نشأت هذه الأزمة بفعل الأسباب التالية:

العجز التجاري الأمريكي
تستورد أمريكا من بضاعة وخدمات أكثر مما تصدره. فشهية المستهلك الأمريكي مفتوحة للاستيراد. فمثلاً استوردت أمريكا في عام 2003م بضائع وخدمات بقيمة $1,652 بليون، بينما كانت صادراتها تعادل $1,203 بليون أي أن العجز التجاري 449 مليار دولار, وقد تصاعد هذا العجز حتى وصل 816 مليار دولار. وقد كان الفارق بين المستورَد و المصدَّر عبارة عن أوراق مطبوعة (دولارات) أمريكية أو سندات حكومية أمريكية, وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى انخفاض فعلي في الدولار, حتى ولو لم يعلن رسمياً.

إن أمريكا لم تمر بمثل هذا العجز التجاري. بل على العكس من ذلك فان أمريكا مرت بفائض تجاري ولعقود عديدة، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بدأ هذا الفائض يتناقص... وبخاصة بسبب المنافسة من البلدان الأوروبية والآسيوية, التي تنتج السلع بأسعار أقل, ما زاد استيراد المستهلك الأمريكي من بضائع وخدمات من تلك الدول, ثم تواكبت هذه الظاهرة مع حجم النفقات العسكرية على الحرب الفيتنامية ما أدى إلى رفع فاتورة المدفوعات، ومن ثم اضطرت أمريكا عام 1971 لإلغاء دعم الدولار بالذهب، فكانت هذه أول الهزات. وفي الثمانينات عندما نمت التجارة العالمية ورحلت المصانع من أمريكا إلى البلدان ذات الأيدي العاملة الرخيصة، زاد ظهور العجز الاقتصادي. كما أن الاستيراد من البلدان المصدرة للبضائع الرخيصة من مثل المكسيك والصين وماليزيا بشكل ثابت أدى إلى اتساع الفارق التجاري.

وهكذا فإن عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات قد خلقا الشكوك وعدم الثقة في الاقتصاد الأمريكي عند المستثمرين، وفيما بعد أدى إلى هبوط الدولار.

المديونية: أظهرت إحصاءات وزارة الخزانة الأميركية ارتفاع الديون الحكومية (الإدارة المركزية والإدارات المحلية) من 4.3 تريليونات دولار في عام 1990 إلى 8.4 تريليونات دولار في عام 2003 وإلى 8.9 تريليونات دولار في عام 2007. وأصبحت هذه الديون العامة تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك يمكن تصنيف الولايات المتحدة ضمن الدول التي تعاني بشدة من ديونها العامة. ولا يتوقف ثقل المديونية الأمريكية على الإدارات الحكومية بل يشمل الأفراد والشركات أيضاً. فقد بلغت الديون الفردية مؤخرا إلى مبلغ قدره 6.6 تريليونات دولار. أما ديون الشركات فتحتل المرتبة الأولى من حيث حجمها البالغ 18.4 تريليون دولار. وبذلك يكون المجموع الكلي نحو 34 تريليون دولار أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. هذه الديون بذاتها أزمة اقتصادية خطيرة.

ارتفاع اليورو:
منذ أن تم صك اليورو، أصبح اليورو ثاني احتياطي عالمي بعد الدولار. وقد ورث اليورو هذه المكانة عن المارك الألماني، بل وزاد من مكانته، وكان ذلك على حساب الدولار, وهكذا أصبحت الثقة باليورو تزيد, وهي بالنسبة للدولار تنقص, وكل هذا أثر في الطلب على الدولار فانخفضت قيمته, وبسبب فقدان الدولار قيمته دفع بالعديد من المستثمرين لاعتماد اليورو في استثماراتهم بدل الدولار.

إلى ذلك فإن أميركا تعاني من مشاكل اقتصادية أخرى في مقدمتها التضخم الذي تجاوز 4% والبطالة التي تشكل 5% والصناعة التي تتراجع, والفقر وسوء الخدمات التعليمية...
كل هذه العوامل أدت إلى انخفاض قيمة الدولار.
وقد أدى هذا الانخفاض إلى أن تعمد بعض البنوك المركزية لتخفيض مخزونها من الدولارات
ويقول بول ماكل، وهو استراتيجي عملات في بنك «إتش إس بي سي» إن البنوك المركزية «أدركت منذ فترة أنها لا ترغب في زيادة مفرطة لما تمتلكه من دولارات. فقد انخفض إجمالي ممتلكات البنوك المركزية في أنحاء العالم الموجودة في صورة دولارات من 73 في المائة إلى 64 في المائة».
هذا هو الأساس الاقتصادي الحقيقي لأزمة الدولار.

ثانياً: بعد ذلك دخلت الأيدي السياسية الأمريكية في تحريك الأزمة لتخدم مصالحها, ولتنقل الأزمة من أزمة محلية أمريكية إلى أزمة دولية... وكان ذلك على النحو التالي:

1ـ إن انخفاض عملة البلد المصدر تزيد من صادراته لأن أسعار السلع تصبح رخيصة نسبياً حيث إن المستوردين سيدفعون قيمة نقدية أقل على اعتبار أن أسعار تلك المواد بعملة بلدها أصبحت أقل نتيجة انخفاض العملة, فمثلاً إذا كان المستورد يدفع (1000)$ ثمن السلعة وكانت تساوي (1000) يورو مثلاً, فإذا انخفض الدولار (10)% مثلاً فإن المستورد سيدفع (900) يورو بدل ال (1000)$ السابقة, ولذلك يقبل التجار على استيراد سلع تلك الدولة بسبب انخفاض عملتها.

غير أن هذا يكون جيداً إذا كان الانخفاض لا يتجاوز 5%, ويكون مقبولاً حتى 10%. أما إن زاد عن ذلك, فإنه سيشكل عبئاً على المصانع المنتجة بسبب التضخم الناتج عن التخفيض, أي زيادة أسعار المواد في تلك البلد نتيجة تخفيض عملتها حيث تنخفض القدرة الشرائية لها. وبسبب هذا التضخم تزيد الكلفة على المصانع, فتزيد أسعار منتجاتها المصدرة, أي أن ثمن السلعة لن يبقى (1000)$ مثلاً بل سيزيد, وهكذا فإن انخفاض العملة إذا زاد عن حدٍ معقول, فإنه سيزيد من كلفة الإنتاج فيزداد سعر السلعة, وبالتالي تقل كمية التصدير بسبب التضخم الناتج عن التخفيض. وفي حالة أمريكا فإن انخفاض الدولار قد زاد عن الحد المعقول فمثلا: أصبح اليورو يزيد عن 1,6 دولار بعد أن كان في عام 2000م يعادل نحو0,8 $ , أي أن انخفاض الدولار تجاوز الحدود الاقتصادية القصوى بأكثر من خمسة أضعاف...

ولذلك فإن الصادرات الأمريكية نتيجة هذا التخفيض لم تزد إلا بقدر ضئيل, أي أن العجز التجاري, مع أنه قل قليلاً, إلا أنه بقي موجوداً.

ومع ذلك فإن أمريكا لم تتخذ إجراءً لتصحيح هذا العجز, فهي لم تخرج جزءاً من مخزونها النفطي للاستعمال وذلك لتخفيض سعر الطاقة بالنسبة للمصانع المنتجة فتنخفض كلفة الإنتاج, فيزيد التصدير, بل رفضت إدارة بوش إخراج جزء من مخزونها النفطي ووضعه للاستعمال لتخفيض سعر الطاقة الذي تصاعد بشكل كبير, أي أنها لم تعالج موضوع العجز التجاري اقتصادياً.

وكذلك هي لم تعالج المديونية بل عملت على زيادتها بسبب استمرار عدوانها الإجرامي على أفغانستان والعراق الذي يكلفها أكثر من (2) ترليون دولار. كما أن إدارة بوش أعطت قروضاً للأغنياء الرأسماليين الأمريكان بنحو ترليون دولار من خلال استقطاع الضرائب عنهم وذلك لدوافع سياسية وانتخابية..., ما جعل المديونية على حالها وتزيد.

وهكذا أبقت أمريكا على تخفيض الدولار ولم تتخذ أي إجراء اقتصادي لتصحيحه, ثم استعملت هذا التخفيض استعمالاً سياسياً بابتزاز الدول ذات الاحتياطي الكبير من الدولار ..., مثل الصين التي تملك احتياطاً دولارياً نحو ألف مليار دولار مما يجعلها تخسر نتيجة التخفيض مبالغ طائلة, ثم الهند والدول الأوروبية والدول النفطية... ما أجبر تلك الدول على محاولة إسناد الدولار بتعويم بعض عملاتها, وشراء الدولار أي زيادة الطلب عليه, فتقلل شيئاً من انخفاضه...

2ـ ثم كانت الخطوة السياسية الأمريكية التالية أمام انهيار أسهم شركات الرهن العقاري, حيث تمكنت أمريكا بواسطتها من نقل الأزمة من أزمة أمريكية إلى أزمة دولية!

لقد قدمت الدولة قروضاً بفائدة مخفضة للشركات العاملة في الإسكان وبخاصة شركات الرهن العقاري التي تبيع المساكن مقابل رهنها حتى تسديد أقساط ثمن البيع. ولذلك أصبحت السيولة متوفرة بشكل كبير عند هذه الشركات, ما دفعها لتيسير شروط بيع المساكن..., وبأسعار ميسرة بل مخفضة حيث إن السيولة المادية عند الشركات العاملة في الإسكان والرهن العقاري أصبحت متوفرة بفعل القروض المقدمة من الدولة بفوائد مخفضة... فأقبل الناس في أمريكا على شراء المساكن... وفتحت أمامهم سبل تسديد الدفعة الأولى من قروض ميسرة يأخذونها من المصارف الأمريكية التي صارت تعطي القروض لأصحاب المساكن بفوائد مناسبة, بل إنها تعطي قروضاً للإسكان بكامل سعر المسكن المرهون, وليس كما تفعل المصارف الأوروبية بأن تعطي قرضاً في حدود 60% من سعر العقار المرهون, وكل ذلك لأن الدولة كانت تعطي قروضاً للشركات والمصارف بفوائد مخفضة, ما جعل قطاع العقار يزدهر بشكل ملحوظ.

وبسبب سياسة العولمة وانفتاح الشركات على بعضها كلما وجدت ازدهاراً وربحاً, أقبلت الشركات العالمية والبنوك الخاصة والمركزية وكذلك الأفراد على شراء الأسهم في شركات الرهن العقاري الأمريكية سعياً وراء الربح..., حيث أخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة بالارتفاع بصورة مستمرة في جميع أنحاء العالم خاصة في الولايات المتحدة حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار في حين أن الأنشطة الأخرى بما فيها التكنولوجيا الحديثة معرضة للخسارة. كما حدث سابقا حين كان الإقبال شديد على الاستثمار في مجال تكنولوجيا المعلومات و الاتصالات. وأقبل الأميركيون أفراداً وشركات على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار الطويل الأجل أو المضاربة. واتسعت التسهيلات العقارية إلى درجة أن المصارف منحت قروضاً حتى للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة.

بقي هذا الأمر جارياً دون مشاكل حتى العام المنصرم, وبخاصة عندما زاد عبء الديون على الدولة, فتوقفت أمريكا عن إعطاء قروض ميسرة لشركات الرهن العقاري وللمصارف, بل وطالبتها بسداد القروض التي أخذتها سابقاً عند حلول مدتها... وصارت شركات الرهن العقاري والمصارف تطالب أصحاب المساكن, وحيث البطالة والتضخم والوضع الاقتصادي السيئ في أمريكا, فلم يستطع أصحاب المساكن لا تسديد ثمن البيع, ولا قروض الدفعات التي أخذوها من المصارف... وهبطت قيمة العقارات ولم يعد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة, فالبيت الذي كان يساوي نصف مليون دولار أصبحت قيمته 200 ألف ولا يجد من يشتريه كما ورد في الأنباء, وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيتهم العقارية وأصبحوا مكبلين بالالتزامات المالية طيلة حياتهم. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة, وتكبدت شركات الرهن العقاري خسائر فادحة تقدر بألفي مليار دولار, وأعلنت شركات عقارية عديدة عن إفلاسها.

وبالتالي أصبح الكثير من الديون معدوماً، ولا يمكن استرداده.
وفي عرض للمصارف الكبرى التي تعرضت أخيرا إلى هزة عنيفة في قطاع الرهن العقاري الأميركي أشارت مجلة «سوق»، الدورية، الصادرة عن غرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية في برلين إلى بنك «سيتي غروب» الأميركي الذي كشف مطلع السنة الجديدة عن خسائره في الربع الأخير من العام الفائت، بلغت 9.83 بلايين دولار (6.6 بلايين يورو في حينه), وارتفعت خسارة البنك المذكور في المجال العقاري حتى الآن، إلى أكثر من 18.1 بليون دولار.

وحصل التطور السلبي ذاته، مع مصرف «مــيريل لينــش» الأميركي الذي أعلن شطب 14.1 بليون دولار من أصوله، ما يعني أن خسائره للربع الأخير من ٢٠٠٧ بلغت بدورها 9.8 بليون دولار، وهي الخسارة الأكبر في تاريخه.

والأمر ذاته حصل مع مصرف «يو بي إس» السويسري الضخم الذي حصل على بلايين الدولارات من صندوق سنغافورة السيادي (GIC) ليتفادى الإفلاس.

وهكذا انهارت أسهم الشركات العقارية في البورصة, وبالتالي هبطت أسهم الشركات والمصارف في كثير من دول العالم حيث كانت ذات صلة بالاستثمار أو الأسهم في الشركات العقارية الأمريكية أو بأعمال مباشرة في قطاع العقار الأمريكي , حتى إن العدوى أصابت القطاعات التي لا تتعامل في الأنشطة العقارية, ولكن بسبب العولمة وتداخل أعمال القطاعات الاقتصادية فقد حصل التأثر فيها.

وما إن انخفضت قيم الأسهم في وول ستريت في أمريكا حتى انخفض المؤشر العام للقيم بنسبة 7.1% في فرانكفورت و 6.8% في باريس و 5.4% في لندن و 7.5% في مدريد و 3.8% في طوكيو و 5.1% في شنغهاي و 6% في ساوباولو و 9.8% في الرياض و 9.4% في دبي و 3% في بيروت و 4.2% في القاهرة.

و لعظم الخسارة و حجم الديون المعدومة تقرر أن يحث الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني غوردن براون البنوك ضمن لقائهما في 27/03/2008م على القيام بكشف كامل وفوري للديون المعدومة لديها. وكان براون قال في يناير/ كانون الثاني الماضي إن بريطانيا تواجه اختبارا عصيبا مع اقتصاد عالمي في وضع صعب وخطير بسبب أزمة الائتمان الناجمة عن أزمة القروض العقارية الأميركية, وقد جاء ذلك بعدما تعرض نورذرن روك -خامس مؤسسة مصرفية بريطانية في قطاع التسليف المتعلق بالرهون العقارية- لضرر بالغ بسبب تداعيات أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة.

وهكذا نقلت أمريكا أزمة شركات الرهن العقاري من أزمة أمريكية إلى أزمة دولية لدرجة أن قامت البنوك المركزية في أوروبا بضخ أكثر من 150 مليار دولار العام الماضي لدعم شركات الرهن العقاري حتى لا تتضرر منها وتنهار البورصات في العالم ومنه أوروبا بسبب امتداد الشركات العالمية في كل الدول وتشابكها بعضها ببعض بسبب نظام العولمة. وبذلك ابتزت أمريكا أوروبا ودعمت شركاتها أي شركات الرهن العقارية الأمريكية بهذه الوسيلة.

و الخلاصة أن للأزمة الأمريكية أبعاداً عدة اقتصادية وسياسية؛ فأمريكا تمر بأزمات حقيقية أدت إلى انخفاض الدولار, فقامت بمناورات أو ( مؤامرات ) سياسية لجعل العالم كله يشاركها في أزماتها وإلا فالعالم كله سيغرق معها، خاصة بعد انتشار العولمة وانفتاح الأسواق كلها على بعضها البعض تحت مسمى اقتصاد السوق وامتداد الشركات كلها عبر العالم وتداخلها مع بعضها البعض. فأصبحت أكثر بلدان العالم بأسواقها مفتوحة على بعضها البعض.

وهكذا استغلت أمريكا انخفاض دولارها بسبب أزمتها الاقتصادية للتخفيف من عجزها التجاري وللابتزاز السياسي وبخاصة بالنسبة للدول التي لديها مخزون كبير من الدولارات. وكذلك استطاعت أن تنقل أزمة شركات الرهن العقاري إلى أزمة دولية, وهي ليست بعيدة عن هذه الأزمة.

ومع ذلك فكل هذه الأعمال السياسية الأمريكية لن تعيد الاقتصاد الأمريكي إلى ازدهاره بل هي فقط قد توقف انهياره, ولولا سياسة العولمة والسوق المفتوح, ولولا النظام الرأسمالي الاقتصادي المتحكم في اقتصاد العالم... ولولا أن دولاً لازالت تعتمد الدولار احتياطياً مركزياً, لولا ذلك لما بقي الاقتصاد الأمريكي واقفاً على قدميه حتى الآن.


ثالثاً: أما سبب ارتفاع أسعار المنتجات المعدنية كالنفط والذهب والحديد... فإنه بعد انهيار شركات الرهن العقاري, وانخفاض سوق الأسهم والسندات, وانخفاض مؤشرات البورصات, فإن ثقة المستثمرين قد قلت في وسائل الاستثمار غير ذاتية القيمة, أي التي لا تحمل قيمتها الذاتية, كالسندات والأسهم والبورصات, فانصرف المستثمرون عنها إلى وسائل استثمار ذاتية القيمة, كالذهب والمعادن المهمة الأخرى, وهذا ما زاد الطلب على الذهب, فارتفع سعره ارتفاعاً هائلاً, فوصل سعر الذهب 1000$، وهو مرشح للارتفاع نحو 1500$ أو يزيد وفق الظروف الجارية...

إن أشد المتضررين من ارتفاع أسعار الذهب هي الولايات المتحدة, حيث إن هذا الأمر إذا استمر فسيعيد الدولار إلى قيمة لا تساوي أكثر من قيمة الورق والكتابة عليها, ولهذا فمن المحتمل أن تقوم أميركا في الفترة المقبلة بكبح أسعار الذهب. وقد بدأت تظهر إشارات ذلك, حيث قام صندوق النقد الدولي باتخاذ قرار بيع 403 طن ذهب بسبب العجز في الميزانية، إلا أن صندوق النقد الدولي أعلن أنه سيقوم بذلك البيع في فترات متباعدة طويلة الأمد. وهذا الإعلان هو إعلان (مضاربة) من شأنه أن يؤثر في خفض سعر الذهب. وهنالك احتمال أن يتم بيع الذهب إلى البنوك المركزية، ما قد يتسبب بقيام البنوك المركزية برفع نسبة الفائدة، ومما سيتسبب برفع سعر الصرف. ومجدداً فإن تصريحات صندوق النقد الدولي في 09 نيسان/أبريل 2008 من أن الأزمة المالية ستكلف تريليون دولار أكثر من كونها شرح الواقع بإنصاف وصدق فإنها كانت بمثابة مضاربة لتغيير جهة سير الاقتصاد والمالية. وكما جاء في تعليق أوردته صحيفة التلغراف الإنجليزية فإن صندوق النقد الدولي هو آخر عنوان يمكن طرقه للخروج من الأزمة المالية الموجودة. لذا فإن هذا التصريح هو بمثابة تحضير لذلك.

وهكذا فإن هبوط قيمة الدولار وأزمة فقدان ثقة المستثمرين في سوق الأصول الأمريكية دفع بالعديد من المستثمرين إلى عدم الاستثمار في النقود الورقية الائتمانية. والتقدير العقلي لهذا أن النقود الورقية الحالية غير مسنودة بشكل كلي لأصول محسوسة. أي انه وفي هذه الأجواء فان انتقال أزمة الثقة تنتشر بشكل سريع لباقي العملات. ولهذا السبب فان بعض البنوك المركزية من مثل البنك المركزي الصيني بدا بشراء الذهب ، ما أدى إلى ارتفاع سعر الذهب إلى أعلى مستوياته. وهذا هو نفس سبب ارتفاع أسعار بعض المعادن من مثل الفضة والبلاتينيوم. كما انه بسبب زيادة طلب الهند والصين على النحاس والزنك والألمنيوم والنيكل قد أدى إلى زيادة في أسعارها، وهذا الطلب على هذه المعادن من قبل الهند والصين بسبب النمو المتسارع لاقتصاد البلدين. فهذا الطلب على هذه المعادن استمر ل 12 سنة من قبل الصين وآخر 4 سنوات من قبل الهند. فقد أنفقت الصين $1 تريليون على البنية التحتية، وستنفق $50 بليون أضافيات في كل عام للسنين الخمسة عشرة القادمة. وقد بدأت الهند بإعادة بناء بنيتها التحتية منذ ستة سنوات. وقد كانت بداية الاستثمارات ضعيفة، ولكن بلغ حجم الاستثمارات في السنوات الأربعة الأخيرة $50 بليون. وقد وضعت خطة لاستثمار ما بين $30 -$40 بليون سنويا للسنين العشر القادمة. إلا انه لا يوجد من المعادن ما يكفي لتغطية هذه الخطة. وزيادة على ذلك فان ارتفاع أسعار البترول زاد من كلفة الإنتاج وبالتالي زاد من ارتفاع الأسعار عموما.

إن سبب ارتفاع أسعار النفط يعود إلى هبوط في قيمة الدولار، وزيادة في القوة الشرائية للنفط من قبل الدول من مثل الاتحاد الأوروبي، والصين والهند لسد زيادة الطلب عليه من اجل سد حاجة تلك البلدان للنفط، إلا أن السبب المهم الذي أدى إلى ارتفاع سعر النفط هو المضاربة. فمضاربات أمريكا على النفط أدت إلى ارتفاع أسعاره، وذلك كي يتم جمع الدولارات الموجودة في السوق ممن يطلب شراء النفط، حتى تتمكن أمريكا من تجنب انهيار عملتها. وهذا هو سبب عدم ثبات المعلومات عن المخزون النفطي الأمريكي.

وللمضاربات دور في رفع الأسعار؛ فمثلا زادت المضاربات في العقود الآجلة في النفط. وكذلك المضاربات في أسعار المعادن وعلى رأسها الذهب. فيعزى ارتفاع أسعار الذهب نتيجة إقبال دول مثل الصين وروسيا وبعض دول آسيا على شراء الذهب للتخلص من كميات الدولارات الهائلة لديها. فالدول لم تعد تثق بالدولار، وانخفاضه يسبب لها خسائر فادحة. وكذلك إقبال الصين على شراء الحديد وباقي المعادن اللازمة للصناعة مما زاد من أسعار الحديد والمعادن الأخرى. فهنا في ألمانيا مثلا صار إقبال كبير على الحديد الخردة، وارتفعت أسعاره، بل تضاعفت لان الكثير منه أصبح يصدر إلى الصين.

ومن المعلوم أنه كلما انخفض الدولار ارتفع سعر النفط في علاقة عكسية معروفة منذ زمن، وهذا واقع الحال اليوم، ففي 17/04/2008م سجلت أسعار النفط مستويات تخطت عتبة 115 دولاراً للبرميل, ثم استمرت بالارتفاع حتى تجاوزت هذا اليوم 5/5/2008م مقدار 120 دولاراً.

وهكذا تكون أسعار النفط قد ارتفعت لأكثر من أربعة أمثالها منذ العام 2002, حيث ازداد الطلب ولاسيما في الصين وسائر الاقتصاديات الصاعدة, وإن التوقعات تشير إلى أن الأسعار ستصل إلى 130دولارا في نهاية شهر ديسمبر المقبل.

رابعاً: أما أزمة الغذاء العالمية فإنه في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية و التي أحدثتها أزمة الرهن العقاري الأميركي, فقد نتجت أزمة أخرى أشد خطورة تهدد الأمن الغذائي العالمي، ففي شتى أنحاء العالم، ارتفعت أسعار الأغذية من الخبز حتى الحليب.

لقد ظهرت الأزمة خلال الآونة الأخيرة بعد ارتفاع أسعار القمح والذرة والأرز وباقي المواد الغذائية الأساسية في السنوات الأخيرة ، وتصاعدت بوتيرة مقلقة في الأشهر القليلة الماضية.

في 6/12/2008م نشرت مجلة الـ إيكونوميست البريطانية تقريراً جاء فيه أن أسعار الحبوب ارتفعت بشكل غير مسبوق منذ تأسيس مؤشر الـ إيكونوميست لأسعار المواد الغذائية عام 1945، بلغت الزيادة حسب الـ إيكونوميست 75%. أما بورصة مجلس شيكاغو للتجارة التي تمثل المقياس العالمي الأول فيما يتعلق بأسعار الحبوب في العالم فقد ذكرت أن القمح ارتفعت أسعاره بنسبة 90%، فول الصويا 80%، الذرة 20%, ولازالت الأسعار ترتفع منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.

وأما أسباب ارتفاع الأسعار, وبالتالي حدوث أزمة الغذاء, فأبرزها:
1ـ ارتفاع أسعار النفط وانخفاض أسعار الدولار:
إن ارتفاع أسعار النفط أدى إلى ارتفاع في أسعار المستلزمات الزراعية من مثل البذور والسماد والمبيدات الحشرية والآلات والنقل. فارتفاع كلفة الإنتاج والنقل أثرت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وبخاصة القمح والأرز والذرة فعلى سبيل المثال فقد ارتفع سعر الأرز في الفلبين بنسبة 70% خلال السنة الماضية.

هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن أسعار المواد الغذائية تقدر غالباً بالدولار, فلما انخفضت قيمة الدولار ارتفعت الأسعار تلقائياً.

قال جراتسيانو «غياب الثقة في الدولار جعل صناديق الاستثمار تبحث عن عوائد أعلى في السلع الأولية... أولا في المعادن ثم في الأغذية». وقد قام العديد من المضاربين في السنوات الخمس الأخيرة بتحويل أموالهم إلى أسواق السلع الأولية بحثا عن عوائد أعلى مما يحصلون عليه من أسواق الأسهم والسندات.

2ـ الظروف المناخية : التي تؤثر في تخفيض الإنتاج الزراعي كالفيضانات والأعاصير ثم الجفاف فمثلاً إن واحدة من أكبر المصدرين للحبوب وهي أستراليا تواجه أكثر حالات الجفاف خطورة في تاريخها... وقد صاحب هذه الظروف المناخية في السنوات الأخيرة طفرة اقتصادية في بعض الدول كالصين والهند والبرازيل أدت إلى زيادة في استهلاك اللحوم.

ومن المعلوم أنه لإنتاج قطعة لحم تحتوي على مائة سعر حراري يتعين إطعام الحيوانات المنتجة للحم 700 سعر حراري من الحبوب, ومن بين ال 2,13 بليون طن من الحبوب فان 1,01 بليون طن فقط مخصص لإطعام الناس وذلك حسب إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدةِ. وبالتالي فان تربية الماشية تزيد من ارتفاع الأسعار العالمية.

3ـ إنتاج الوقود الحيوي من الحبوب:
اعتبر جان زيغلر المقرر الخاص للأمم المتحدة للحق في الغذاء في تصريح لإذاعة ألمانية أن الإنتاج الكثيف للوقود الحيوي يمثل اليوم "جريمة ضد الإنسانية" بسبب تأثيره على ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم.
والوقود الحيوي قائم على المنتجات الزراعية, وقد استخدم, في السنوات الأخيرة, كثير من الدول الصناعية المحاصيل الزراعية والأراضي الزراعية في إنتاج الوقود الحيوي للتخفيف من الاعتماد على النفط الذي ارتفعت أسعاره إلى أرقام قياسية، ما أدى إلى زيادة الطلب على الوقود الحيوي، وبالتالي ارتفاع أسعار الحبوب.

ففي بلدان من مثل الولايات المتحدة والبرازيل تحولت الأراضي الزراعية إلى زراعة الذرة وفول الصويا لإنتاج الايثانول. فمنذ العام 2001 زادت كمية الذرة المستخدمة في إنتاج الايثانول الحيوي في الولايات المتحدة بنسبة 300%. كما أن أمريكا تسعى إلى إنتاج 35 بليون جالون (133 بليون لتر) من الايثانول بحلول عام 2017. وقد اقر الكونغرس الأمريكي في وثيقة الطاقة لعام 2005 على زيادة إنتاج الايثانول المستخرج من الذرة من 4 بليون جلون في العام 2006 إلى 7,5 في العام 2012.

وفي آذار 2007 التقى الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بنظيره البرازيلي "لويز انيسيا لولا سلفا" لتوقيع معاهدة بين البلدين "معاهدة الايثانول" للتعاون المشترك بين البلدين لإجراء بحوث وتطوير الجيل القادم من إنتاج الوقود الحيوي, وتشكيل اتحاد تجاري للوقود الحيوي وخصوصا في بلدان وسط أسيا. لقد كانت اتفاقية "الايثانول" بين الرئيسين بداية لنمو ظاهرة زراعة الحبوب من اجل استخدامه في إنتاج الوقود الحيوي. فقد قضت مزارع قصب السكر وزيت النخيل والصويا المخصصة لإنتاج الوقود الحيوي على الأراضي العشبية والغابات في البرازيل والأرجنتين كولومبيا والإكوادور والايرغواي. فقد احتلت مزارع الصويا في البرازيل ل21 مليون هكتار من أراضي الغابات، و14 مليون هكتار في الأرجنتين، ولا يبدو أن هذه الظاهرة ستنحسر ما دامت أسعار الحبوب في ارتفاع. وسيقتطع 100 مليون طن من الحبوب من مجموع 2,13 بليون طن في استخراج الوقود الحيوي في العام 2008 ، وبعبارة أخرى ستستخدم هذه الأطنان لإطعام السيارات.

4ـ الفشل الإداري والسياسي :
أما عن إنتاج القمح و الذي يعتبر منتجا إستراتيجيا فالاتحاد الأوروبي ينتج 122 مليون طن، الصين تنتج 106 مليون طن، الهند تنتج 75 مليون طن، الولايات المتحدة تنتج 56 مليون طن، روسيا تنتج 48 مليون طن. كما أن الولايات المتحدة تصدر 32 مليون طن، كندا تصدر 15 مليون طن، الاتحاد الأوروبي عشرة مليون طن، الأرجنتين عشرة مليون طن.

أما الدول العربية فكلها عدا سوريا مستوردة للقمح وعلى رأسها مصر بلد النيل أكبر مستورد للقمح في العالم، مصر 7 مليون طن، الجزائر بلد جبال الأطلس والمزارع التي كانت تشتهر بها في عهد الفرنسيين تستورد 5 مليون طن، العراق بلد دجلة والفرات تستورد 3 مليون طن، المغرب 3 مليون طن، اليمن فيستورد ما يقرب من 3 مليون، وتونس 1من عشرة طن، والأردن 500 ألف طن.

و في ظل انخفاض الدولار وارتفاع أسعار النفط فإن تكلفة استيراد القمح سترتفع أكثر فأكثر، ما سيكلف ميزانيات تلك الدول أموالا طائلة حتى لو حصلت على القمح و الحبوب بـأسعار تفضيلية.

هذا على الرغم من ما تمتلكه هذه الدول من مصادر مياه و أراضٍ خصبة! أفليس من المستهجن أن تكون بلاد النيل والنهرين و جبال أطلس من أكبر بل أكبر المستوردين للقمح في العالم!!!.

ولعل ما جاء من توصيات مؤخرا في تقرير للبنك الدولي حول مصادر المياه في الشرق الأوسط و شمالي لإفريقيا، يبين كيف ترسم السياسة الخبيثة للدول العربية! فقد خلص التقرير إلى أنه لتوفير المياه يجب تبنى سياسات زراعية تقلل من استهلاك المياه، فأوصى بزراعة الطماطم و البطيخ... وبعدم زراعة القمح ! ، و بطبيعة الحال فإن توصيات البنك الدولي التي قال عنها بير فرنشيسكو مانتوفاني خبير المياه في البنك الدولي إنها لا تتعلق بإجراءات تقنية يقررها مهندسون بل بإصلاحات سياسية عميقة!

ومع العلم أن كثيرا من الدول لديها إمكانية زراعة القمح، ولكن السياسة الاستعمارية التي اتبعها صندوق النقد الدولي تحول دون ذلك, حيث إن الصندوق يشجع زراعة التبغ والقطن لدى الدول التي تتبع سياسته ، ويعطي القروض والمساعدات لزراعتهما, في حين يمنع القروض والمساعدات لزراعة القمح, وذلك من أجل تمويل المصانع الغربية بهاتين المادتين.

إن بلاد المسلمين قد حباها الله بأراض خصبة ومياه وفيرة, وهي لو أحسن استغلالها تجعل المسلمين في بحبوحة من العيش, ولكن هذا يحتاج إلى نظام صالح من لدن حكيم خبير, نظام الإسلام, الخلافة الراشدة, التي تملأ الأرض عدلاً وخيراً, وعسى أن يكون ذلك قريباً بإذن الله.

1 جمادى الأولى 1429هـ

الموافق في 05/05/2008م