بسم الله الرحمن الرحيم

خطاب التخوين وخطاب التكفير


تقوم وسائل الإعلام المدعومة من الحكومات المحلية العميلة القائمة في العالم الإسلامي، والمسنودة من القوى الدولية الكبرى المؤثرة في الساحة العالمية بمحاولة مقصودة تهدف إلى إقصاء ما بات يطلق عليه اصطلاحاً بـِ (خطاب التخوين وخطاب التكفير) من الخطاب الإعلامي الإسلامي والشعبي المتداول بشكل عام في وسائل الإعلام، ولا سيما في فضائيات منها على وجه الخصوص.
وأصبحت تلك الفضائيات تدعو في هذه الأثناء إلى استبعاد مفردات التخوين والتكفير من الساحة الإعلامية بكل صراحة، وتحث على عدم ذكرها أو استخدامها من قبل الإعلاميين والسياسيين والمفكرين إلا إذا كان ذلك الاستخدام من باب الاستنكار والاستغراب والاستهجان.
كما وتحاول هذه الفضائيات جاهدةً إلصاق تهم التطرف وشق الصف الوطني بمن يستخدم تلك المفردات، ساعيةً من خلال تلك التهم أن تشوه صورة من يستخدمون هذا الخطاب، ومحاولةً إخراجه من دائرة الضوء.
وفي حالات معينة تحاول بعض هذه الفضائيات إطلاق صفة خوارج العصر على أصحاب هذا الخطاب، وتصويرهم بالمنبوذين والخارجين على مجتمعاتهم، بصرف النظر أكان خطابهم هذا جهادياً أم سياسياً أم دعوياً.
ولا يفرقون في تصويرهم لأصحاب هذا الخطاب في كون خطابهم موجهاً ضد الكفار أعداء الإسلام كأميركا واليهود مباشرةً، أم ضد الحكام العملاء والخونة فقط. إي أنهم يريدون إلغاء هذا الخطاب كلياً من وسائل الإعلام.
إن هذه الحملة الإعلامية المسعورة التي تشنها وسائل الإعلام ضد حملة الدعوة خاصة الذين يستخدمون في خطاباتهم ألفاظ التخوين والتكفير لا تخرج عن سياق فرض أميركا لأجندتها التي أدرجتها ضمن مبادراتها الإصلاحية الاستعمارية للشرق الأوسط للهيمنة على الإعلام الإسلامي، وللسيطرة على الفلتان الإعلامي الذي طرأ على بعض وسائل الإعلام الخارجة عن سطوة الحكومات. فهذه الهجمة الأميركية الشرسة على هذا الخطاب الإسلامي المؤثر لن يجعل أميركا تنجح في تحقيق أهدافها، حتى وإن انصاع لها –جبناً وطمعاً- الكثير من الإعلاميين والكثير من الفضائيات، وذلك لأن طبيعة الفكر الإسلامي لا يمكن حرفه عن مساره وهو لا يخلو من تلك المفردات، بل يستعملها بشكل صريح لا مواربة فيه، لذلك كان من الصعب على أية وسائل إعلامية تجاهل هذه الحقيقة خاصةً إذا كان القرآن الكريم نفسه قد استخدمها. فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "بئست البطانة الخيانة". فضلاً عن أن هناك آيات تتحدث عن الكفار وعن التكفير وهي أكثر من أن تُحصى في هذا المقام، وهي بالنسبة للمسلمين تعتبر من المعلوم من الدين بالضرورة. لذلك كانت محاولات أميركا وأذنابها المتمثلون في حكام البلاد الإسلامية وسائل إعلامهم لإسقاط خطاب التخوين والتكفير من الخطاب الإسلامي ضمن الحملة الأميركية التي أطلقتها ضد ما أسمته بالإرهاب، محاولات محكومٌ عليها بالفشل الأكيد، كونها تمس بالثوابت القرآنية، وتطال المرتكزات الإيمانية للمسلمين.
على أن خطاب التخوين يختلف عن خطاب التكفير في الخطاب الإسلامي العام، ومن المستحسن إلقاء الضوء على هذين الخطابين خوفاً من الخلط بينهما.
فخطاب التخوين يتعلق بالمسلمين وبحكام المسلمين ولا يتعلق بالكفار، وأما خطاب التكفير فيتعلق بالكفار كما يتعلق بحكام المسلمين، وتعلقه بحكام المسلمين ينحصر في تطبيقهم لأنظمة وقوانين الكفر، ولا يتعلق بذواتهم، وأما تعلقه بالكفار فيشمل الأنظمة والقوانين التي يطبقونها كما يشمل ذواتهم.
والتخوين وصف لمرتكب الخيانة من المسلمين، ومن يرتكب الخيانة فقد فعل جرماً عظيماً، واقترف ذنباً كبيراً، إلا أن هذا الجرم وذاك الذنب لا يوصل إلى الكفر بتاتاً. فالتخوين شيء والتكفير شيء آخر، فلا يوضعان في سلة واحدة، لأن الأول يتعلق بالحكم الشرعي بينما يتعلق الثاني بالعقيدة.
فنحن مثلاً عندما نخون الحكام فهذا لا يعني أننا نكفرهم وإن كانت خياناتهم فظيعة، وإن كانوا يستحقون القتل عليها، لذلك يجب الانتباه جيداً إلى هذه النقطة، وهي أن تخوين الحكام مسألة منفصلة كلياً عن تكفيرهم.
أما خطاب التكفير فيتعلق بأمرين:
الأول: تكفير غير المسلمين هو أمر من المعلوم من الدين بالضرورة. قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وغيرها من الآيات الدالة على كفر غير المسلمين كثيرة.
الثاني: تكفير الأنظمة والدساتير والقوانين والمعالجات التي يطبقها حكام المسلمين في البلدان الإسلامية، وهذا التكفير واضح لكون تلك الأنظمة والدساتير والقوانين والمعالجات لم تستمد من الشريعة الإسلامية.
هذا هو خطاب التخوين وهذا هو خطاب التكفير في الخطاب الإسلامي العام، وهو كما بيَّنا لا يمكن تجاوزه، أو تجاهله، أو القفز عليه. ومن هنا فإننا نقول للذين ينساقون وراء التأثير الإعلامي الرسمي المنقاد للإعلام الغربي انقياد التابع للمتبوع وانقياد العبد لسيده، نقول لهؤلاء الذين ينجرفون مع كل تيار، ومع أي تيار يعادي دين الأمة وحضارتها، نقول لهم: ماذا تقولون في تصرفات حكامكم الذين انحازوا إلى الجانب الأميركي ضد الجانب الإسلامي في الحرب التي أعلنوها ضد الإسلام والمسماة زوراً بالحرب على الإرهاب؟ هل تستطيعون القول بأن تصرفاتهم الممالئة لأعداء الأمة هذه ليست خيانات؟ وهل علاوي الذي نصَّبته أميركا في العراق، وكرازاي الذي نصَّبته في أفغانستان والذي أقسم يمين تنصيبه رئيساً أما ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي، وغيرهم من أدوات الحكم الأميركية ليسوا بخونة؟!
ثم ماذا نقول عن برويز مشرف مثلاً الذي وادع الهنود عبدة العجْل، وحارب القبائل المتمسكة بدينها في وزيرستان، وكان من قبل قد مكن أميركا من احتلال أفغانستان، هل نستطيع أن لا ندمغه بالخائن؟!
وماذا نقول مثلاً عن خيانة حكام دول الجوار العراقي الذين تواطئوا مع أميركا ومكنوها من احتلال العراق، وما زالوا يهيئون لها الأسباب للاستقرار فيه، هل نستطيع أن نسمي خيانتهم الفظيعة هذه باسمٍ آخر؟
ثم ماذا نقول عن حكام دول الجوار لفلسطين الذين طالما فرطوا في نصرة أهل فلسطين الذين تعرضوا للإبادة والتهجير والذبح والتقتيل، وبدلاً من نصرتهم راحوا يعترفون بالكيان اليهودي وينسجون معه العلاقات السرية والعلنية ويقدمون المشاريع الخيانية للاعتراف بالكيان اليهودي بشكل جماعي والذي كان آخرها مبادرة الأمير عبد الله ولي عهد السعودية مكافأةً لليهود على اغتصابهم لفلسطين؟ فبدلاً من مواجهة الكيان اليهودي ومناصرة أهل فلسطين اعترف حكام العرب بإسرائيل وأداروا ظهورهم للمستضعفين الفلسطينيين. تُرى ماذا نسمي هذه التصرفات؟ هل يمكن تسميتها بشيء غير الخيانة؟
وماذا نسمي أعمال وتصرفات حاكم كالقذافي الذي انقلب على العرب والمسلمين بشكل استفزازي وتواطأ مع أميركا وبريطانيا على المكشوف ودفع لهما مليارات الدولارات من أموال الشعب الليبي، وسلَّمهم مفاتيح قوة ليبيا العسكرية، وأعطاهم معلومات مجانية خطيرة عمَّن ساعد ليبيا في حصولها على بعض أسباب القوة كعبد القدير خان العالم الباكستاني النووي الذي سعى مشكوراً لنشر المعلومات السرية النووية في البلاد الإسلامية حتى تصبح بلداناً قوية، فبدلاً من شكره على فعله، طعنه القذافي في ظهره، وأسلمه إلى عدوه، فهل مثل هذه الأفعال المشينة ممكن أن نسميها بغير الخيانة؟.
وهكذا، لو استعرضنا تصرفات جميع حكام العرب والمسلمين لوجدناها تحقق لأميركا والغرب جميع مطالبهم، وتمكن جواسيسهم من النيل من هذه الأمة الكريمة ومن السيطرة على مقدراتها، لذلك كانت هذه التصرفات يصعب تسميتها بغير الخيانة، لأنها فعلاً خيانة حقيقية أضرت بحقوق العباد، وفرَّطت بقضايا الأمة، وتنازلت عن ثوابتها.
هذا ما نقوله لهؤلاء المضبوعين بالغرب بالنسبة لخطاب التخوين، وأما ما نقوله لهم بالنسبة لخطاب التكفير وهم الذين ينساقون لاهثين وراء الخطاب الإعلامي الرسمي الخانع للخطاب الإعلامي الغربي: ماذا نسمي قوانين إباحة الربا، وإباحة الزنا، وإباحة القمار، وإباحة شرب الخمر، وما شابهها؟ وماذا نسمي نظام الحكم القائم على فصل الدين وإبعاده عن الحياة؟ هل نسمي هذه القوانين المعمول بها في معظم البلاد الإسلامية، وهذه الأنظمة المطبقة في كل البلاد الإسلامية هل نسميها قوانين إسلامية وأنظمة حكم إسلامية؟ أم أنها قوانين كفر وأنظمة كفر؟ ثم هل تمسك هذه الدول القائمة في العالم الإسلامي بالقانون الدولي الكافر وبقرارات مجلس الأمن الوضعية، وبالمقابل، التفريط بقوانين الشرع المستنبطة من الكتاب والسنة، هل يعتبر هذا التمسك وذلك التفريط إيماناً وإسلاماً؟ أم كفراً وارتداداً؟
ثم كيف لا نعتبر الأنظمة القائمة في البلدان الإسلامية أنظمة كفر وهي لا تستمد قوانينها من الشريعة الإسلامية؟ ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}؟ وألم يقل سبحانه وتعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؟ وألم يقل سبحانه وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ؟
أفنجعل المسلمين كالكافرين المجرمين ما لكم كيف تحكمون؟
فبعد هذا الخطاب القرآني الصريح بتكفير من أراد الاحتكام إلى الطاغوت، إي إلى غير شرع الله، فهل يبقى لنا مجال لخطاب آخر؟! فمن طبَّق الكفر مقتنعاً به فهو كافر يطبق الكفر، ومن طبَّق الكفر غير مقتنع به فهو غير كافر وإن طبَّق الكفر وهو يعتبر في هذه الحالة من الفاسقين الظالمين الآثمين ولا يعتبر من الكافرين لقول تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ولما كان حكام المسلمين اليوم يدَّعون بأنهم مسلمون، وينطقون بالشهادتين، فنحن لا نكفرهم، ولكننا نكفر النظام الذي يطبقون، والقانون الذي يشرعون، لأنه نظام كفر وقانون كفر. لذلك كان من الدقة بمكان أن نجتنب تكفير الحكام الذين يدَّعون الإسلام، والاكتفاء بالتركيز على تكفير أنظمة الحكم التي يحرسونها، لأنها أنظمة كفر طاغوتية لا ترتكز إلى كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذا هو خطاب التخوين وخطاب التكفير في الإسلام، إنه خطاب تخوين للحكام الخونة الذين يفرطون بحقوق المسلمين، وتكفيرٌ لأنظمة حكمهم لأنها ليست مأخوذة من الشريعة الإسلامية، وهذا هو الخطاب الإسلامي الصحيح الذي يتوجب على حملة الدعوة التزامه والتقيد به.

أبو حمزة الخطواني


 
20/12/2004م  

www.hizb-ut-tahrir.info