- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2025-10-08
جريدة الراية: أبعاد زيارة ترامب لبريطانيا
قام ترامب بزيارة اعتبرت تاريخية لبريطانيا يوم 16/9/2025 ولمدة يومين، وكان قد زارها في شهر حزيران عام 2019 خلال ولايته الأولى. وزيارة رئيس الدولة الأولى في العالم على المستوى الدولي لبريطانيا والتي كانت تتربع على العرش نفسه قبل الحرب العالمية الثانية لا يمكن أن تحسب على العلاقات التجارية ومفاوضات التعرفة الجمركية والاستثمارات في صناعة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كما تروج الصحف في وصفها للزيارة.
فالزيارة الأولى عام 2019 جاءت في وقت كانت فيه بريطانيا على وشك الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبالفعل خرجت بعد ستة أشهر من تلك الزيارة. ولا شك أن خروجها من الاتحاد الأوروبي كان له أثر كبير في علاقة أمريكا ونظرتها لأوروبا. خاصة وأن أوروبا كانت تسعى للوصول إلى مرحلة الاستغناء عن الحماية الأمريكية في ظل الناتو، وأنها كانت ترى أن الناتو لم يعد ذلك الحلف الضروري والمهم لأمن أوروبا. خاصة بعد مضي وقت طويل على انهيار الاتحاد السوفيتي وضمور نجم روسيا على المستوى الدولي. فكانت زيارة ترامب تحمل في طياتها تشجيعا لبريطانيا لخروجها من الاتحاد الأوروبي لتعود أوروبا بكل تواضع لتقبل الاستمرار في حلفها العسكري مع أمريكا بالرغم من نظرتها السلبية للحلف، ولاستيائها من هيمنة أمريكا. فقد قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع مجلة الإيكونوميست في تشرين الثاني 2019 إن حلف شمال الأطلسي يمرّ بموت دماغي. من هنا فقد كانت زيارة ترامب الأولى تتعلق بالموقف الدولي والعلاقة من أوروبا، وإبقائها ضمن دائرة أمريكا في النظام الدولي. وفي الوقت نفسه ضمان موقف بريطانيا وتشجيعها للخروج من الاتحاد الأوروبي.
أما هذه الزيارة فقد جاءت لناحيتين؛ إحداهما تتعلق بالموقف الدولي الذي تشتعل فيه نار الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وتعتبر بريطانيا من أكثر الدول المحفزة لاستخدام قوة الناتو لردع روسيا. في الوقت الذي تعارض أمريكا هذا الأمر بشدة. وتعتبر بريطانيا من أكثر الدول دعما لدخول أوكرانيا في حلف الناتو من أجل توفير حماية قوية لها باستخدام قوات الناتو. وأمريكا لا تريد ذلك، بل هي تعمل لضمان استمرار الحرب بين الدولتين لأطول فترة لتبقى أوروبا ومعها بريطانيا في حالة تأهب من تبعات الحرب، خاصة استنزاف مواردها المالية والعسكرية. فجاءت زيارة ترامب لبريطانيا صاحبة الدور الأكثر فعالية في توجيه دفة العلاقة المتعلقة بالحرب. وظهر في المؤتمر الصحفي بين ترامب وستارمر رئيس وزراء بريطانيا، حيث دعا ستارمر إلى عقوبات مشددة ومواقف أكثر صرامة للضغط على روسيا، فقد أعرض ترامب عن هذا التوجه مكتفيا بالقول إن بوتين قد خذله في بعض المواقف، دون التعرض لعقوبات أو أنواع ضغط مختلفة. وبهذا قدم ترامب رسالة لبريطانيا وأوروبا عامة بأن الحرب ماضية وأن عليهم أن يتحملوا التبعات المادية ومن ثم السياسية الخاصة بحلف الناتو وهيمنته.
أما الناحية الثانية للزيارة فقد جاءت في الوقت الذي كانت فيه معظم دول أوروبا ومنها بريطانيا قد وافقت على قيام دولة فلسطينية إلى جانب كيان يهود على أراض احتلت سنة 1967، على عكس ما يريده كيان يهود بتأييد من أمريكا. فجاء ترامب ليعلن لأوروبا أنه ماض في تصوره القائم على الهيمنة على الشرق الأوسط، وتحقيق سياسة الاستقرار الجيوسياسي فيه، والذي يتطلب توسيع حدود كيان يهود والتأكيد على هوية الدولة اليهودية. وليبين أن قرارات أوروبا ومعها أكثر الدول في العالم للاعتراف بدولة للفلسطينيين لن يغير شيئا في مخطط أمريكا للشرق الأوسط. وأمريكا تعلم جيدا أن بريطانيا لا تزال تلعب دورا مهما في الشرق الأوسط، بالرغم من خروجها من أهم مراكز القوى فيه كمصر وإيران والعراق وسوريا والسعودية. فتأثيرها من خلال علاقاتها الوطيدة مع دول الخليج والأردن وما تبقى لها من نفوذ تاريخي في الكيان الغاصب، قد يمكنها من زعزعة الاستقرار الذي تريده أمريكا على شاكلة معينة. من هنا جاءت زيارة ترامب محاولة منه لكبح جماح بريطانيا، إما تهديدا لمصالحها، أو تطمينا لها على المحافظة على بعض مصالحها، أو كما حصل من تقديم استثمار يزيد على 275 مليار دولار في الصناعة التكنولوجية كالذكاء الاصطناعي وإنتاج الطاقة النووية.
وقد لوحظ أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقد بين ترامب وستارمر أن ستارمر تجنب الصدام مع ترامب أو إثارة أي مواضيع قد تدفعه للكشف عما تحدثوا به على انفراد. فحين سئل عن علاقة سفير بريطانيا بابستين عراب العلاقات الشاذة، صرف السؤال بلباقة لتجنب إحراج ترامب في أسئلة مشابهة. كما أن إبداء الحفاوة البالغة باستقبال وتوديع ترامب كان له أثر في تجنب صدامات رشح بعضها بصراحة ترامب أكثر من مرة بألفاظ مثل (لا أوافق أو عندي تصور آخر).
قد يختلف الطرفان على كثير من القضايا وتفاصيلها فيما يتعلق بالهيمنة، وإخراج بريطانيا من مناطق نفوذها في الشرق الأوسط على مدار 70 عاما. ولكنهما لا يختلفان أبدا على أهم قضية في الشرق الأوسط. وهي قضية ظهور الإسلام وإعادة دولة الخلافة على الساحة الإقليمية ومن ثم الدولية. فبريطانيا عملت على هدم الخلافة منذ بداية القرن الماضي، وأنشأت كيانات بموجب اتفاقية سايكس بيكو لضمان عدم عودتها. والآن أمريكا بصدد إعادة رسم الخريطة على طريقتها وباستخدام مفكريها الاستراتيجيين، ومعاهدها الاستراتيجية. فإن كان هناك توافق أو تعاون بين بريطانيا المتنحية وأمريكا المتسلطة فهو في هذا المجال فقط، والذي لا يزال يضعهما في معسكر واحد. وكم يذكرنا هذا الأمر بالحروب الصليبية؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الدويلات والمملكات الأوروبية متناحرة، ومتقاتلة على المصالح، كانت الخلافات والشجارات تنتهي حين يتعلق الأمر بالحرب على الدولة الإسلامية. وليس بعيدا عن ذلك العلاقات العدائية جدا بين بريطانيا وفرنسا، والتضارب الشديد بينهما، إلا أنه حين تعلق الأمر في منطقة الشرق الأوسط بعد هدم الدولة العثمانية وضع المندوبان سايكس وبيكو الخارطة على الطاولة واقتسموا مناطق النفوذ.
وأمام هذه المواقف التي تحدث أمام أعيننا ما زلنا نرى حكام المسلمين يتسابقون على إرضاء هؤلاء المستكبرين، يبتغون عندهم العزة!
وبالرغم من كل هذا الذي يجري أمامنا من غطرسة أرباب النظام العالمي، وقزمية حكامنا، فإن لنا من الله براهين كثيرة على اقتراب الوعد الحق. فبعد أكثر من 70 عاما منذ عام 1950 وأمريكا تنفق الأموال وتشعل الحروب لتهيمن على الشرق الأوسط على حساب بريطانيا، فإنا نراها لا تزال تحسب لها حسابا، وأنها لم تكمل سيطرتها وهيمنتها. وأن ما حققته حتى الآن يرقد على صفيح ملتهب ومتحرك. ثم إن شدة التكالب بين الأقطاب الكبيرة واشتعال النيران في أوروبا وفي فلسطين وليبيا والسودان كلها تنذر بخروج العالم عن السيطرة الأحادية، وانفلات العقد العالمي. كل ذلك يضاف إليه واقع الأنظمة الاقتصادي والمالي في العالم والتي تنذر بانهيار في أي لحظة رغم كل محاولات تثبيته بكافة السبل. كل ذلك ظاهر للعيان، وهو حاصل بإذن الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، الذين صبروا حين اشتدت بهم الأمور، وأبصروا حين ادلهمت الخطوب وأظلمت السبل، وتوكلوا على الله الحي القيوم، الناصر لعباده.
بقلم: د. محمد جيلاني
المصدر: جريدة الراية