المكتب الإعــلامي
ولاية مصر
| التاريخ الهجري | 28 من جمادى الأولى 1447هـ | رقم الإصدار: 1447 / 21 |
| التاريخ الميلادي | الأربعاء, 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 م |
بيان صحفي
البنوك في النظام الرأسمالي: حقيقتها، وواقع تعاملاتها، والحكم الشرعي فيها
في الوقت الذي تواصل فيه المؤسسات الرسمية تبرير النظام المالي القائم وتحصينه من أي نقدٍ شرعي، صدرت تصريحات حديثة لدار الإفتاء المصرية جاء فيها: "إن التعامل مع البنوك وأخذ الفوائد منها جائز شرعاً، وكذلك الإنفاق من هذه الفوائد في وجوه النفقة المباحة". ورغم ما يحمله هذا القول من خطورة، لما فيه من تمرير للتعامل الربوي، فإنه يكشف حجم التناقض بين أحكام الإسلام القطعية في باب الربا، وبين منظومةٍ رأسمالية تُحاول أن تلبس الربا لباساً جديداً تحت مسميات "فوائد"، و"خدمات مالية".
تُعَدّ البنوك في النظام الرأسمالي جزءاً أساسياً من بنيته الاقتصادية، وهي مؤسسات وُضعت لخدمة فلسفته القائمة على تعظيم الربح الفردي، وتمكين أصحاب رؤوس الأموال، وإغراق المجتمعات في الديون التي تُنتج التبعية الاقتصادية والهيمنة السياسية. ولذلك فإن فهم حقيقتها الشرعية لا يتم بمعزل عن فهم هذا النظام نفسه، وطبيعة العقود التي يقيمها، والآثار التي ترتّبت عليه في حياة الناس. ومن هنا يظهر بوضوح أن البنوك الرأسمالية ليست كيانات حقيقية تتعامل وفق عقود مشروعة، بل هي أدوات تستند إلى مفهوم غير شرعي، وتقوم على معاملات محرّمة في أصلها، أهمها الربا بنوعيه الفضل والنسيئة.
البنك في أصله القانوني هو "شخصية اعتبارية"، أي كيان مخترَع لا وجود له في الواقع المحسوس، ولا يتعامل معه الإنسان بوصفه طرفاً حقيقياً في العقد، كالذي يتعامل مع تاجر أو صاحب مال معروف. فالشخصية الاعتبارية مفهوم قانوني بشري يجعل المسؤولية على المؤسسة وليس على الأفراد الذين يقومون بإدارة تلك الأموال. وهذه الفكرة التي تبدو تقنية في ظاهرها لها أثر خطير شرعاً؛ لأن العقود في الإسلام تجري بين أطراف حقيقية تتحقق فيهم الأهلية، وتثبت لهم الذمة، ويمكن مؤاخذتهم بالرضا والقبول والإيجاب. أما أن يُخترَع كيان وهمي يُلزم العباد، وتُرتّب عليه حقوق وواجبات، وتُجعل معاملاته نافذة شرعاً، فهذا ليس من الشريعة في شيء.
هذا التصور الاعتباري هو الذي سمح للبنوك أن تتعامل بأموال مودَعة لديها دون تحديد مالك محدد، وأن تعقد عقوداً لا يتحمل فيها أحد من البشر مسؤولية الضمان الواقعي، ما يجعل كثيراً من هذه العقود باطلاً من جهة انعدام العقد بين المتعاقدين، ومن جهة مخالفتها لشروط صحة التصرّف التي أوجبها الشرع.
في الواقع العملي، فإن البنوك الرأسمالية لا تقوم على الاستثمار المنتج ولا المشاركة في المخاطرة، بل تعتمد على النشاط الأساسي الذي قامت عليه منذ نشأتها؛ إقراض الأموال بزيادة محدّدة مسبقاً. فهي تأخذ الأموال من المودعين بوعدٍ بعائد ثابت، ثم تعيد إقراضها إلى أفراد أو شركات أو دول بعوائد أعلى، وتجعل الفرق مكسباً لها. وبالتالي فإن حقيقة العملية المالية هي قرض بزيادة مشروطة، وهو عين الربا الذي حرّمه الشرع تحريماً قطعياً بنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة. فالعائد المحدد مسبقاً لا يتغير سواء ربح البنك أو خسر، ولا يرتبط بنشاط استثماري حقيقي، ولا بمشاركة في المخاطرة، بل هو زيادة مشروطة على أصل المال، وهذا هو تعريف ربا النسيئة الذي وردت به النصوص الشرعية القطعية.
يروج البعض لفكرة أن العوائد البنكية ليست ربا لأنها "أرباح استثمار"، وأن البنك "يستثمر" الأموال في مشروعات، فيعطي المودع جزءاً من الأرباح. وهذا القول مردود من وجوه:
1- أن العائد محدد مسبقاً، بينما الربح في الإسلام لا يكون معلوماً قبل تحقق النشاط، بل يوزع بنسبة متفق عليها بعد تحقق الربح. أما الربا فهو مبلغ ثابت مستقل عن نتائج الاستثمار.
2- عدم وجود عقد مشاركة؛ فالمودع ليس شريكاً ولا مضارباً ولا مالكاً لحصة من المشروع، بل الدليل الوحيد على العلاقة هو إيصال الإيداع. وهذا لا يمكن حمله على أنه عقد مضاربة، لأن المضاربة تقوم على احتمال الربح والخسارة، بينما البنك يضمن المال ويضمن الربا.
3- البنك يضمن رأس المال، وضمان رأس المال من شريك أو مضارب يؤدي إلى فساد العقد شرعاً، لأن الضمان يحوّل المشاركة إلى قرض، والقرض إذا شُرط معه نفع صار ربا.
4- غياب الاستثمار الحقيقي أصلاً؛ فغالب أموال البنوك تُعاد كقروض لعملاء آخرين أو توضع في أدوات دين، وليس في استثمارات إنتاجية تخضع لأحكام المشاركة.
إذن فالقول بأن عوائد البنوك ليست ربا هو مجرد محاولة لتغيير تسمية المحرّم، وهو ما لا يُغيّر من حقيقته شيئاً.
الربا ومع كونه محرماً لأنه مخالفة شرعية دلت عليها نصوص قطعية، فهو يؤدّي في الواقع إلى نتائج كارثية؛ فهو يراكم الثروة عند قلّة، ويُغرق الأفراد والدول في الديون، ويحوّل المجتمع إلى طبقة دائنة وأخرى مدينة، ويجعل المال دُولة بين الأغنياء. هذه الحقائق ليست نظريات بل واقع قائم في بلاد المسلمين، حيث أصبحت الدول رهينة البنوك الدولية، وأصبح الناس محاصرين بالقروض الاستهلاكية والإسكانية والتعليمية. فالبنوك ليست مؤسسات لخدمة الاقتصاد، بل أدوات لامتصاص الثروة وإعادة توزيعها بما يخدم رأس المال العالمي، ويجعل بلاد المسلمين في تبعية دائمة للنظام المالي الدولي الذي تحكمه المؤسسات الغربية.
يا أهل الكنانة: إن أخطر ما تواجهه الأمة ليس الفقر ولا الغلاء، بل تزييف الوعي حين يُلبَّس الربا لباس الحلال، ويُقال للناس إن ما حرمه الله نصاً صار جائزاً بإفتاء أو تصريح! فاعرفوا عمن تأخذون دينكم، ولا تأخذوا أحكام ربكم ممن يجعلون رضا الحكام مقدماً على رضا الله. وتحرّوا من تتلقون عنه، فما كل متصدر للفتوى أهلٌ لها، ولا كل صوتٍ يُلبس الأقوال مسوح الشرع ناصحٌ لكم.
يا علماء الأزهر يا من حملهم الله أمانة البيان: لقد أخذ الله عليكم الميثاق أن تُبيّنوا الحق ولا تكتموه، وأن لا تخشوا في الله لومة لائم. فلا تكونوا أبواقاً لنظام يوظّف الفتوى ليحل الربا، ولا تفتوا بما يغضب الله. كونوا دعاةً إلى إقامة دولة الإسلام، وتحرير الناس من سطوة الرأسمالية، لا دعاةً لتسويغ واقع فاسد يُراد للأمة أن تركع له.
إن الأمة تنتظر منكم كلمة صدق تُحيي بها القلوب، وتُعيد لها الثقة بدينها، وتنتظر منكم موقفاً يوافق ما عرفتم من الحق، وما دلّ عليه الوحي، وما أوجبته الأمانة التي حملتموها، فكونوا طليعة العاملين لتطبيق الإسلام وإقامة دولته عسى الله أن يفتح بكم ولكم القلوب فتقام دولة الإسلام الموعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾
المكتب الإعلامي لحزب التحرير
في ولاية مصر
| المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية مصر |
عنوان المراسلة و عنوان الزيارة تلفون: www.hizb.net |
E-Mail: info@hizb.net |