- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الحديث النبوي الشريف (16)
تحسين الصوت بالقرآن الكريم
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
القُرآنُ كَلامُ اللهِ، وَهُوَ حَبلُهُ المَتِينُ، وَصِرَاطُهُ المُستَقِيمُ، مَا تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ إِلاَّ قَصَمَهُ اللهُ، وَهُوَ دُستُورُ الأُمَّةِ، وَبِهِ حَيَاتُهَا وَرِفْعَتُهَا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى الأُمَّةِ العِنَايَةُ بِهِ وَتِلاوَتُهُ، وَالعَمَلُ بِهِ، وَتَحكِيمُهُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَدَعوَةُ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى الإِيمَانِ والعَمِلِ بِهِ وَالاحتِكَامِ إِلَيهِ.
رَوَى الحَاكِمُ فِي المُستَدرَكِ عَلَى الصَّحِيحَينِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ». وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ». فَإِنَّ الْقُرْآنَ يُزَيِّنُ صَوْتَ الْمُؤْمِنِ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ؟ قَالَ: «مَنْ إِذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ».
وَرَوَى الحَاكِمُ فِي المُستَدرَكِ عَلَى الصَّحِيحَينِ أيضًا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ». قَالَ: قُلْتُ لابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ: "يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ". وَهُنَاكَ مَنْ فَسَّرَ كَلِمَةَ "يَتَغَنَّ" بِمَعنَى "يَستَغْنِي" مُحتَجًّا بِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَهُوَ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ فَظَنَّ أنَّ أحَدًا أغنَى مِنهُ فَقَدْ حَقَّرَ عَظِيمًا, وَعَظَّمَ صَغِيرًا».
هَذَا التَّفسِيرُ تَحتَمِلُهُ لَفظَةُ "يَتَغَنَّ", وَلَكِنَّ الزَّمَخشَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الكَشَّافِ قَالَ عَنِ الحَدِيثِ المَروِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: "لَمْ أجِدْهُ عَنْ أَبِى بَكْرٍ، وَأخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ فِي تَرجَمَةِ حَمْزَةَ النُّصَيبِيِّ عَنْ زَيدِ بنِ رَفِيعٍ عَنْ أبِى عُبَيدَةَ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ. وَحمزَةُ اتَّهَمُوهُ بِالوَضْعِ".
وَقَد حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ عَلَى تَحسِينِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ, لأَنَّ ذَلِكَ أنفَعُ لِلأُمَّةِ وَأشَدُّ أثَرًا فِي القُلُوبِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَولُهُ عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ: «زَينُوا القُرآنَ بِأصوَاتِكُمْ». وَقَولُهُ: «لَيسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرآنِ»؛ لأنَّ تَزيِينَ الصَّوتِ وَتَحسِينَ التِّلاوَةِ يُسَهِّلُ دُخُولَ القُرآنِ فِي القُلُوبِ, وَأدعَى إِلَى تَأثُّرِ القُلُوبِ بِسَمَاعِ آيَاتِ اللهِ. بِخِلافِ الصَّوتِ غَيرِ الحَسَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَفِّرُ مِنْ سَمَاعِ القُرآنِ، وَيَدعُو إِلَى الإِعرَاضِ عَنِ القَارِئِ! وَقَد مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيلَةٍ بِأبِي مُوسَى الأشعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَهُوَ يَقرَأُ، فَاستَمَعَ لَهُ وَأعجَبَهُ صَوتُهُ، فَلَمَّا رَآهُ فِي النَّهَارِ قَالَ لَهُ: «لَقَد أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ». يَعنِي صَوتًا حَسَنًا. فَقَال أبُو مُوسَى: "لَو عَلِمْتُ أنَّكَ تَسمَعُ لحبَّرتُهُ لَكَ تحبيراً" أيْ حَسَّنتُ قِرَاءَتَهُ وزَيَّنتُها, وَيُؤيِّدُ ذَلِكَ تَأييداً لا شُبْهةَ فِيهِ حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلّ شَيءٍ حِلْيةٌ وَحِلْيةُ القُرآنِ حُسْنُ الصَّوتِ».
وَلأَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَبْطَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً بَعْدَ الْعَشَاءِ ثُمَّ جِئْتُ, فَقَالَ: "أَيْنَ كُنْتِ؟ " قُلْتُ: كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِكَ لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ وَصَوْتِهِ مِنْ أَحَدٍ, قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى اسْتَمَعَ لَهُ, ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: «هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ, الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا».
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ "التِّبيانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرآنِ" فَصلاً سَمَّاهُ "فِي استِحبَابِ تَحسِينِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ". قَالَ فِي مَطلَعِهِ: "أجْمَعَ العُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الأَمصَارِ، وَأئِمَّةِ المُسلِمِينَ عَلَى استِحبَابِ تَحسِينِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ، وَأقوَالُهُمْ وَأفعَالُهُمْ مَشهُورَةٌ ... وَدَلائِلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُستَفِيضَةٌ عِندَ الخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ".
وَرَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ». وَمَعنَى "أذِنَ" أي استَمَعَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الرِّضَا وَالقَبُولِ. وَرَوَى الرُّويبَانِيُّ فِي مُسنَدِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهِمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ».
بَلْ لَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أحْسَنَ النَّاسِ صَوتًا؛ رَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِىِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ!».
وَكَمَا هُوَ مَعلُومٌ فَإِنَّ الصَّوتَ الحَسَنَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ يُعطِيهِ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ، فَيَنبَغِي أنْ يُتتَبَّعَ أصْحَابُ الأصوَاتِ الحَسَنَةِ، وَأن يُعتَنَى بِهِمْ، لِيؤُمُّوا النَّاسَ، كمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي صَلاةِ التَّراوِيحِ، وَاختِيَارِهِ لِلصَّحَابِيَّينِ الجَلِيلَينِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وَتَمِيمِ بنِ أوْسٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا لإِمَامَةِ النَّاسِ.
وَأمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوتِ فَليَحرِصْ عَلَى تَحسِينِ صَوتِهِ بِالقُرآنِ، وَأنْ يَتلُوَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ. وَلَكِنَّ تَحسِينَ الصَّوتِ يَنبَغِي أنْ يَكُونَ وَفْقَ الضَّوَابِطِ الشَّرعِيَّةِ، وَالآدَابِ المَرضِيَّةِ، وَلَيسَ المَقصُودُ بِهِ تَرقِيقَهُ، وَتَمطِيطَهُ، وَمَا أشبَهَ ذَلِكَ؛ كَمَا يَفعَلُهُ بَعضُ قُرَّاءِ عَصْرِنَا فِي الجنَائِزِ وَالمَحَافِلِ؛ وَقَد كَانَتْ هَذِهِ المُخَالَفَةُ مَوجُودَةً مُنذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ "التِّبيانُ فِي آدَابِ حَمَلَةِ القُرآنِ": "وَهَذَا القِسْمُ مِنَ القِرَاءَةِ المُحَرَّمَةِ مُصِيبَةٌ ابتُلِيَ بِهَا بَعضُ الجَهَلَةِ الطَّغَامِ الغَشَمَةِ الَّذِينَ يَقرَؤُونَ عَلَى الجنَائِزِ، وَبَعضِ المَحَافِلِ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ ظَاهِرَةٌ، يَأثَمُ كُلُّ مُستَمِعٍ لَهَا؛ كَمَا قَالَهُ أقضَى القُضَاةِ المَاوَردِيُّ، وَيَأثَمُ كُلُّ قَادِرٍ عَلَى إِزَالَتِهَا، أو عَلَى النَّهْيِ عَنهَا إِذَا لَمْ يَفعَلْ ذَلِكَ، وَقَد بَذَلْتُ فِيهَا بَعضُ قُدرَتِي، وَأرجُو مِنْ فَضْلِ اللهِ الكَرِيمِ أنْ يُوَفِّقَ لإزَالَتِهَا مَنْ هُوَ أهْلٌ لِذَلِكَ، وَأنْ يَجعَلَهُ فِي عَافِيَةٍ. وَإِنَّمَا المَقصُودُ بِتَحسِينِ الصَّوتِ تِلاوَةُ القُرآنِ مَعَ مُرَاعَاةِ أحكَامِ تِلاوَتِهِ، وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ".
أحبتنا الكرام: نَشكُرُكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن