Logo
طباعة
هل حادثة قتل اليهود في أستراليا تطرف إسلامي أم عجز النظام القائم في حماية الناس؟

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

هل حادثة قتل اليهود في أستراليا تطرف إسلامي أم عجز النظام القائم في حماية الناس؟

 

 

الخبر:

 

دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى حرب دولية ضد "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، بعد أيام من مقتل 15 شخصاً بالرصاص في مهرجان "حانوكا" اليهودي في سيدني.

 

 وقال ترامب في حفلة استقبال لمناسبة عيد حانوكا في البيت الأبيض، الثلاثاء، "يجب على كل الدول أن تتّحد ضد قوى الشر للإرهاب الإسلامي المتطرف، ونحن نقوم بذلك".

 

وقتل ساجد أكرم وابنه نافيد 15 شخصاً عندما أطلقا النار على جمع من المحتفلين بعيد حانوكا اليهودي على الشاطئ الشهير مساء الأحد الماضي (موقع الجبال)

 

التعليق:

 

أثارت حادثة القتل التي استهدفت يهوداً في أستراليا موجة من الجدل الإعلامي والسياسي، وسارع بعض الخطاب الغربي - كعادته - إلى القفز على النتائج، وربط الجريمة بما يُسمّى "التطرف الإسلامي"، دون انتظار تحقيقات مكتملة أو قراءة أعمق للسياق. غير أن التناول المتعجل لهذه الحادثة لا يكشف حقيقة الجريمة بقدر ما يكشف أزمة أعمق وهي عجز النظام القائم عن حماية الناس، وفشل الدولة الحديثة في إدارة التعدد والأمن معاً.

 

أول ما يجب التأكيد عليه هو أن الإسلام يحرّم قتل النفس البشرية تحريماً قاطعاً، أيّاً كانت ديانتها أو قوميتها، ويجعل الاعتداء على الأبرياء من أعظم الجرائم. فلا يمكن أخلاقياً ولا شرعياً ولا عقلانياً تحميل دينٍ كامل مسؤولية فعل إجرامي فردي، خصوصاً في غياب أي دليل قانوني قاطع. إن هذا الربط التلقائي ليس تحليلاً، بل دعاية سياسية تخدم سياسات.

 

إن ما وقع في أستراليا - كما في حوادث مشابهة في دول غربية عديدة - يعكس خللاً بنيوياً في المنظومة الأمنية والاجتماعية: تفكك أسري، أزمات نفسية، انتشار العنف، وتراجع دور القيم الأخلاقية لصالح منطق القوة والمصلحة. ومع ذلك، بدل أن تواجه الأنظمة هذه الأسباب الحقيقية، تختار الطريق الأسهل وهي شيطنة الآخر "الإسلام" وتقديمه ككبش فداء.

 

الأخطر من ذلك هو أن هذا الخطاب يُستخدم لتبرير توسيع القمع، وتشديد الرقابة، وتضييق الحريات، خصوصاً على المسلمين، بحجة "مكافحة التطرف"، بينما تُترك جذور العنف الحقيقي دون معالجة. وهكذا يتحول الأمن من حماية الناس جميعاً إلى أداة سياسية انتقائية.

 

تكشف هذه الحادثة مرة أخرى أن الدولة التي تفصل الأخلاق عن السياسة، وتُقصي الدين عن المجال العام، تعجز عن إنتاج أمن حقيقي. فالأمن ليس كاميرات وشُرطة فقط، بل منظومة قيم، وعدالة، وشعور بالانتماء، ومسؤولية جماعية. وعندما تُهمَّش هذه الأسس، يصبح العنف نتيجة متوقعة لا استثناءً.

 

إن المطلوب اليوم ليس مزيداً من الاتهام للمسلمين، بل مراجعة جادة للنموذج القائم، والاعتراف بأن الإقصاء والكراهية لا يصنعان أمناً، وأن العدالة وحدها هي الضامن الحقيقي للسلم المجتمعي. كما أن على الإعلام أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية، وأن يتوقف عن تغذية الإسلاموفوبيا كلما وقعت جريمة، لأن ذلك لا يحمي أحداً، بل يوسّع دائرة الخوف والانقسام.

 

انظر في الدولة الإسلامية، لم يكن العدل والمساواة شعاراتٍ أخلاقية مجرّدة، بل نظام حكم مُلزِم يُطبَّق على الجميع دون تمييز ديني أو عرقي. فقد قامت الدولة الإسلامية منذ نشأتها على مبدأ أن الرعية - مسلمين وغير مسلمين - متساوون في حق الحماية والأمن والكرامة الإنسانية، وهو ما تجسّد في وثيقة المدينة التي اعتبرت اليهود وغيرهم «أمةً مع المؤمنين» لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، في إطار عقدٍ سياسي يضمن الحقوق والواجبات المشتركة. ولم يكن الانتماء الديني مانعاً من الإنصاف القضائي، إذ خضع الحكام والمحكومون للقضاء نفسه، ووقف غير المسلمين خصوماً للخلفاء أمام القضاة دون امتياز للسلطة أو العقيدة.

 

كما رسّخت الدولة الإسلامية مفهوم الرعوية العملية عبر نظامٍ إداري وقضائي يَصون حقوق الجميع، فحُفظت دور العبادة، وضُمنت حرية المعتقد، وتكفّلت الدولة بحماية غير المسلمين والدفاع عنهم، حتى عُدّ الاعتداء عليهم خيانةً للعهد. ولم يكن العدل مرتبطاً بالأغلبية أو القوة، بل بميزانٍ أخلاقي أعلى يجعل العدل فريضة دينية قبل أن يكون واجباً سياسياً. ولهذا استطاعت الدولة الإسلامية عبر قرون طويلة أن تدير مجتمعات متعددة الأديان والأعراق بحدٍّ أدنى من الصراعات الداخلية، في وقت كانت أوروبا تغرق في الحروب الدينية والإقصاء، ما يؤكد أن الاستقرار الحقيقي لا يصنعه القمع ولا الإقصاء، بل العدل الشامل الذي لا يفرّق بين إنسانٍ وآخر.

 

كما اعتمدت الدولة الإسلامية في تعاملها مع الجريمة على مبدأ المسؤولية الفردية، فالجريمة تُنسب إلى فاعلها وحده ولا تُحمَّل لجماعته أو دينه أو قومه، تطبيقاً للقاعدة القرآنية المحكمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. ولهذا كان المجرم يُحاسَب بصفته شخصاً ارتكب فعلاً مُحرَّماً أو اعتداءً مُجرَّماً قانوناً، بغضّ النظر عن انتمائه الديني، فلا يُؤخذ غيره بجريرته، ولا تُفرض عقوبة جماعية على أهل دينه أو طائفته، لأن العدل في التصور الإسلامي لا يقوم إلا على محاسبة الفرد وحده ضمن إجراءات قضائية واضحة.

 

ختاماً، فإن حادثة القتل في أستراليا - مهما كانت ملابساتها - ليست دليلاً على "تطرف إسلامي"، بل هي شاهد جديد على فشل منظومة تدّعي التقدم والإنسانية، بينما تعجز عن حماية الإنسان، وتصرّ على الهروب من أزمتها عبر اتهام الآخرين. والبديل الحقيقي يبدأ بإعادة الاعتبار للقيم، والعدالة، والإنسان، قبل السلاح والقانون.

 

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

عبد العظيم الهشلمون

 

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.