Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

الخلافة على منهاج النبوة: عدل ورحمة للعالمين

 

 

عَنْ عَمَّارِ بن أَبِي عَمَّارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ وَعِنْدَهُ يهودِيٌّ، فَقَالَ لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الآيَةُ لاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيداً. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ: جُمُعَةٍ وَيَوْمِ عَرَفَةَ. رواه الطبراني في معجمه الكبير. فالحمد لله على هذه النعمة: نعمة الهداية ونعمة اكتمال الدين. دين كلُّه هدى ورحمة ونور، من يعتصم به هُدِيَ إلى صراط مستقيم.


فالإسلام دين الله الحق، والرسالة الخاتمة لوحي السماء والحق الواحد فكلُّ ما على الأرض اليوم من تشريعات عداه ومذاهب باطل وضلال. هذا الدين كامل في تشريعاته يضمن كمال العدل، وكمال الرحمة وكمال الهداية وتمام التكريم وتمام العبودية لله، لأنه من عند الله وحده.


ولهذا فإننا لا نجانب الحق حين نقول إنه لا عدل ولا كرامة ولا ضامن لتحقيقهما في الأرض بغير الإسلام. وما تشهده البشرية اليوم من ظلم وجور وفساد هو أكبر دليل على معنى الضنك الذي يسببه الإعراض عن تطبيق وحي السماء. الإنسان الذي تملؤه الغرائز ويندفع بحب التملك كيف سيرحم عوز غيره ويمتنع عن أكل مالهم وقوت يومهم بغير الترهيب بعذاب جهنم لآكل حق غيره والترغيب بعظيم الثواب لمن أعطى واتقى؟ من يملؤه حب الشهوات كيف يكف عن محارم الناس ويحفظ حرماتهم ويستر عوراتهم بغير ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؟


والإسلام حين جاء كشريعة من رب العالمين لتنظيم شؤون الإنسان بوصفه فردا وجماعة وأمة وعالما كاملا، كان تشريعه مفصلاً دقيقاً منضبطاً يضمن حين تنفيذه كاملاً بلا أي إشراك مع غيره من التشريعات حصول العدل والرحمة للمجتمع. فلن تجد في المجتمع الإسلامي ظلماً حصل دون أن يكون هناك حساب للظالم ورد حق للمظلوم، ولا مظلمة لم يستوفها صاحبها. فإن الإسلام جاء بالأساس لحفظ دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وكراماتهم. عن أَبي بكْرةَ أنَّ رسُول الله ﷺ قَالَ في خُطْبتِهِ يوْم النَّحر بِمنىً في حجَّةِ الودَاعِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بلَّغْتُ». وعن أَبي هُريْرة رضي الله عنه أنَّه ﷺ قَالَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وعِرْضُهُ وَمَالُهُ».


يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلَا تَظَالَمُوا». وسنورد هنا أهم ما يتعلق بتحريم الظلم، وما فصّله الله تعالى من أحكام كفيلة حين تطبق بمنع وقوع الظلم، بل ومنع وجود الظلمة وأطرهم على الحق إن وُجدوا.


 إن أعظم ميزة لهذا الدين أنه، كما قلنا في البداية، هو الحق وما سواه باطل، فهو من لدن حكيم خبير. وهذه الميزة وحفظ الله لدينه من التحريف والتبديل، تعني مما تعنيه أنَّ كل تشريعات الإسلام حق وعدل، فلا مجال لمناقشتها أو عقد جلسات حوارية للتأكد من صلاحيتها، ولا يلزم تحديث ولا تجديد لأي بند من بنود الدستور الإسلامي الذي يُستنبط بالأدلة التفصيلية من مصادر التشريع الأربعة: القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس الشرعي. وهذه الميزة بحد ذاتها كافية لأن تبث الطمأنينة في قلوب طالبيها. كما أن هذا كفيل بوضع حد لتمرد الحكام وغطرستهم ويقطع على من تسول له نفسه سبيل شرعنة فساده أو تحليل ما يشاء وتحريم ما يكره. فالحلال بيِّن والحرام بيِّن. ولا مناطق رمادية في التشريعات المتعلقة بحقوق العباد ومقاصد الشريعة الخمسة.


 والثاني أن الإسلام يوجب على كل من يدين به، وكل من يحمل التابعية لدولته، أن يجعل السيادة لهذا الدين. فلا سيادة لغير دين الله. ببساطة: هذا هو الحق الذي لا يحابي أحداً وهذا دين عزيز يوجب عليك أن لا تقدم عليه سواه. لا سلطة فوق تشريع الله. في القوانين الوضعية تنتشر عبارة من قبيل: القانون فوق الجميع، لكن الواقع يخبرنا أن ما يحصل هو خلاف ذلك، قديماً وحديثاً. كانت بنو إسرائيل إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإن سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. لكن الإسلام بكل عزة وعدل يقول: «وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». وسيدنا عمر بن الخطاب قد جلد ابن أمير مصر عمرو بن العاص لأنه جلد قبطياً بغير حق. أرأيتم كيف يجعل الله السيادة لدينه لا لأحد سواه؟ حتى لو كنت ابن نبي أو ابن الخليفة أو ابن الأمير.


 الحاكم في الإسلام ليس ملكاً ولا رئيساً، هو أميرٌ لجماعة يحمل مسؤوليتهم وبينه وبينهم عقد وبيعة يعطونه فيها الطاعة وحسن الالتزام بالإسلام على أن يُحسن رعايتهم بهذا الدين ويطبقه عليهم كما أمر ربهم. فالخليفة في الإسلام مثله مثل غيره سواسية كأسنان المشط، وهذه هي إحدى أبجديات الإسلام العظيم. لا تفاوت ولا فضل إلا بطاعة، وطاعتك هذه لا منّة لك على أحد بها، بل تظل تترقب حتى تموت القبول من عدمه. هكذا يربط الإسلام الإنسان بآخرته ويجعله يركز على الهدف الحقيقي من وجوده؛ الاستخلاف في الأرض. فالحاكم والمحكوم كلاهما على ثغر عظيم، إقامة دين الله حين استعملهم الله. والخلافة مسؤولية عظيمة والإمارة فتنة كان يفر منها الأقوياء الأتقياء خشية أن يسألهم الله سبحانه عنها. وسيدنا عمر الفاروق مات وهو يقول: يا ليتني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي. هذا وهو من فرَّت منه الشياطين!


 هذه الأفكار والأبجديات ليست محل تنظير ولا مجرد أفكار أفلاطونية عن مدينة فاضلة لا وجود لها. فالإسلام أيضا يتميز بأنه جاء لبشر يصيبون ويخطئون، وهو قابل للتطبيق في كل عصر وعلى أي جماعة. فجاء بطريقة مفصلة لكل هذه الأحكام، وبيان لكيفية تنفيذها.


الإسلام بهذه الميزات، ومع عظيم فتنة الإمارة وكون السلطة مدخلا عظيما للظلم والزلل، فقد جعل أحكامه على قسمين: الأول متعلق بالحاكم نفسه من ترغيبه في ثواب حسن الرعاية وحثه على الرحمة بالعباد وقضاء شؤونهم ورعايتهم بالعدل والحكمة وترهيبه من العاقبة الوخيمة للظالمين في الدنيا والآخرة. والثاني متعلق بالمحكومين فجاء بأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحكام والنصح لهم، وضرورة الصدع بالحق وأطر الحاكم على الحق أطراً. وجعل خشية الله سبحانه هي المحرك للعباد وعظيم أجر الصادعين بالحق.


وسأذكر هنا مواد من دستور دولة الخلافة الذي أعدَّه حزب التحرير، تتعلق بالحكم ورعاية الشؤون وضمان منع الظلم وإزالته حين يحصل، مع تعليق عليها بما يناسب سياق المقال.


 المادة 4: "لا يتبنى الخليفة أي حكم شرعي معين في العبادات ما عدا الزكاة والجهاد، وما يلزم لحفظ وحدة المسلمين، ولا يتبنى أي فكر من الأفكار المتعلقة بالعقيدة الإسلامية". وهذا كفيل بحد التغول التشريعي الذي يصيب الحكام، وينهي يد الطغاة الطولى قبل أن تولد. فالدستور واضح والتشريعات معلومة لكل مسلم، ولا مجال للتلاعب أو إيجاد مواد مستحدثة. وهذا كفيل أيضاً بإنهاء الفتن والبدع وما يخرب على الأمة في عقيدتها، فيحفظ لها دينها كما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام.


 المادة 5: "جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات الشرعية". فلا تمييز على أساس طائفي أو عنصرية، وحادثة ضرب ابن عمرو بن العاص للقبطي ثم اقتصاص خليفة المسلمين للقبطي من الأمير توضح كيفية رعاية الشؤون ومنع الظلم على أي فرد من الرعية.


 المادة 13: "الأصل براءة الذمة، ولا يُعاقب أحد إلا بحكم محكمة، ولا يجوز تعذيب أحد مطلقاً وكل من يفعل ذلك يُعاقب". وهذا ينهي حالات التغول الأمني والأخذ بالظن واختطاف الناس والتشبيح عليهم الذي ينتشر في كل بلاد المسلمين، حتى صارت السجون أكثر من المدارس، وصار المسلم يخشى أن ينطق كلمة الحق خوفاً من أن يذهب وراء الشمس. هذه المادة كفيلة بإنهاء الصيدنايات في بلاد المسلمين وما أكثرها! وهذه المادة كفيلة بتحقيق المقصد الذي جاءت به الشريعة: حفظ نفس الإنسان وكرامته.


 المادة 20: "محاسبة الحكام من قبل المسلمين حق من حقوقهم وفرض كفاية عليهم. ولغير المسلمين من أفراد الرعية الحق في إظهار الشكوى من ظلم الحاكم لهم، أو إساءة تطبيق الإسلام عليهم". فالمجتمع الإسلامي مجتمع حر بامتياز: حر في تعبيد الجميع لله، وحر في قدرة الفرد على ممارسة حقه في التعبير في غير ما يخالف الشرع، وانتقاد الحاكم بل ومحاسبته بكل قوة، والإنكار على الدولة والصدع بالحق دون أن يخشى في الله لومة لائم. أجل، الإسلام يبني مجتمعات حرة قوية، الكل فيها يخشى الله وحده. فالحاكم فرد يخطئ ويصيب، وشعار الخليفة هو صنو شعار أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".


 المادة 24: "الخليفة هو الذي ينوب عن الأمة في السلطان وفي تنفيذ الشرع "، والمادة 28: "لا يكون أحد خليفةً إلا إذا ولاه المسلمون، ولا يملك أحد صلاحيات الخليفة إلا إذا عقدها له المسلمون على الوجه الشرعي كأي عقد من العقود". وهاتان المادتان من أهم ما يضمن حق الناس في اختيار حاكمهم، ومنع توريث الحكام أو تنصيب الغرب لحكام على غير ما تهوى الأمة وتريد.


 المادتان 33 و34 بفروعهما فيهما تفصيل لكيفية تنصيب الخليفة، وبيان دقيق لحالة شغور منصب الخليفة ومن يستلم مؤقتاً مكانه لتسيير الشؤون. فالإسلام لم يترك المجال لأي خلل ولا تيه. كل تفصيل واضح ومبين.


 المادة 37: "الخليفة مقيد في التبني بالأحكام الشرعية، فيحرم عليه أن يتبنى حكماً لم يُستنبط استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية وهو مقيد بما تبناه من أحكام، وبما التزمه من طريقة استنباط، فلا يجوز له أن يتبنى حكما استنبطه بطريقة تخالف الطريقة التي تبناها، ولا أن يعطي أمراً يناقض الأحكام التي تبناها". وهذا مما يجعل الحاكم يقف أمام مسؤوليته في رعاية الشؤون ويثبته في الفتن على الحق، ويعزز قوة الأمة في المحاسبة ومواجهة أي طارئ يعصف بالدولة أو ضغوط خارجية قد يتعرض لها الخليفة، فتكون الدولة ملزمة بالشرع والأمة سند وعضد يثبت الحاكم ومعاونيه على الحق ويحاسبهم بكل قوة وجرأة من الدستور الذي ألزموا أنفسهم والأمة به.


 المادة 40 وفروعها في تفصيل عظيم لما يُمكن أن يتعرض له الخليفة مما يفقده أهليته كحاكم للأمة، وتوضيح لكل حالة وكيفية التصرف الواجب على الأمة والدولة اتخاذها. ففسق الحاكم لا توجب طاعته كولي أمر كما يُشيع علماء السلطان بل توجب محاسبته وتصل لحد عزله عن منصب الخلافة، وعجز الخليفة عن القيام بمهامه بحال تسلط أحد عليه أو أسره عدو، يرجع فيه إلى حاله أيستطيع الخلاص أم لا، فإن كان مأمول الخلاص يُنذر وإلا يُخلع وينصب سواه. فالخلافة


ليست منصب تشريف، وكما قلنا السيادة للشرع والسلطان للأمة لا لشخص الحاكم ولقبه.


 محكمة المظالم وحدها مسؤولة عن متابعة قدرة الخليفة على القيام بمهامه، والتدقيق في حاله وما يصدر عنه، ولها الحق في عزله أو خلعه. وقاضي المظالم لا يعينه الخليفة، وهذا يحمي الأمة والدولة، من الفساد الإداري وتضييع الحقوق ويئد أي ظلم أو سلب لسلطان الأمة في مهده.


 معاونو التفويض الذين يعينهم الخليفة، ينتهي عملهم بانتهاء عمل الخليفة بموته أو عزله، وهذا يضمن تجدد الطاقات ومنع أن تكون دولة داخل الدولة، أو سيطرة أحزاب وجماعات على الحكم وسلب السلطان من الأمة.


 المادتان 45 و46 معاون التفويض يجب عليه أن يطلع الخليفة بما يمضيه من أعمال، والخليفة واجب عليه أن يتابع ما يقوم به معاونوه، فالأمر الأول والأخير للخليفة، وهو المسؤول الأول والأخير في الدولة. فأي ظلم يقع يُحاسب عليه الخليفة ولا مجال للتملص وإلقاء الأخطاء على صغار العمال أو التملص من المحاسبة. كما أن هذا يحمي الدولة من تطاول الوزراء وحاشية الخليفة وتفردهم بشؤون الدولة من دونه. هكذا يضع الإسلام كل فرد أمام مسؤولياته ويحمّله واجباته لأنه بكل وضوح سيُسأل عنها أمام الله سبحانه، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾. يقول رسول الله ﷺ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». فالمسؤول حين يوقن أن وراءه حساباً سيعد لكل سؤال جواباً ولكل ما تخطه الملائكة تفصيلاً. نسأل الله عفوه.


ودون أن نطيل في الكلام: إن الدولة الإسلامية هي تنفيذ عملي لما قاله الله سبحانه وتعالى عن سيدنا محمد ﷺ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. وأحكامه كفيلة أن تتجلى هذه الرحمة واقعاً تحياه الأمة كما نعم به المسلمون الأوائل في ظل الخلافة الراشدة الأولى. نسأل الله أن يكرمنا بالثانية قريباً ويجعلنا أهلها ومن العاملين المخلصين لها.

 

#أزمة_السودان         #SudanCrisis

 

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بيان جمال

 

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.