الأربعاء، 30 ربيع الثاني 1447هـ| 2025/10/22م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

Al Raya sahafa

 

2025-10-22

 

جريدة الراية: تحديد حاجات الإنسان

بين الفكر الإسلامي والفكر الوضعي

 

 

 مفهوم الحاجات الإنسانية وترتيبها من القضايا الجوهرية التي شغلت الفكر الاقتصادي المعاصر، خاصة في ظل اتساع الهوة بين الغنى الفاحش الذي تتمتع به أقلية من البشر، والفقر المدقع الذي يعانيه معظم سكان الأرض. فالإحصاءات الدولية تكشف صورة قاتمة: مليار إنسان يعيشون في حالة جوع شديد، 1.5 مليار محرومون من الرعاية الصحية الأساسية، ومليار آخرون لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، في حين إن 76% من سكان العالم لا يملكون سوى 20% من الدخل العالمي. هذه الحقائق تفضح إخفاق النظم الوضعية المعاصرة في معالجة أبسط حاجات البشر، رغم التقدم الصناعي والعلمي الهائل، ورغم الموارد الضخمة التي يزخر بها كوكبنا.

 

من هنا برزت جهود واسعة لمحاولة تحديد الحاجات الإنسانية وترتيبها، حتى تُبنى استراتيجيات التنمية على أساس واضح. بعض هذه الجهود جاء من مؤسسات دولية، وبعضها من مراكز بحوث إقليمية، كما سعت بعض المعاهد الغربية إلى صياغة تصنيفات خاصة بها. غير أن هذه الجهود - كما سنرى - تظل حبيسة الرؤية المادية والفردية التي تميز الفكر الوضعي.

 

التصنيفات الوضعية للحاجات:

 

أول هذه التصنيفات هو ما قدمه مكتب العمل الدولي في تقريره حول العمالة والنمو والحاجات الأساسية، حيث اعتبر أن الحاجات الإنسانية تنقسم إلى قسمين: حاجات استهلاكية خاصة بالأسرة مثل الغذاء الكافي والمأوى والملبس والأثاث والأجهزة المنزلية، وحاجات عامة تشمل المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي والنقل العام والخدمات الصحية والتعليمية. هذه الرؤية تمثل مقاربة عملية لكنها لا تخرج عن إطار الاستهلاك المباشر المادي.

 

أما مركز التنمية الصناعية للدول العربية فقد ميّز بين حاجات مادية تشمل الغذاء والملبس والمسكن والتنقل والتعليم والصحة، وحاجات غير مادية يمكن تلبيتها عبر إعادة التنظيم المجتمعي والسياسي، مثل الحريات الأساسية ودور الفرد في المجتمع. والجديد هنا إدراج التعليم والصحة ضمن الحاجات المادية، خلافاً لما هو شائع في أدبيات التنمية التي اعتبرتهما سابقاً حاجات غير مادية.

 

في حين ذهب المعهد الألماني للتنمية إلى تقسيم الحاجات إلى استهلاك شخصي (الغذاء، المسكن، الملبس، الأجهزة المنزلية) وخدمات عامة (الصحة، التعليم، المياه، الصرف الصحي، المواصلات). واللافت أن هذه التصنيفات، رغم اختلافها في التفاصيل، تكاد تدور حول الدائرة ذاتها: التركيز على البعد المادي والاستهلاكي، مع محاولات لإقحام بعض الحاجات المعنوية أو المجتمعية.

 

الإشكالية في الفكر الوضعي:

 

المشكلة الكبرى في هذه المقاربات أنها تعاني من اضطراب في ترتيب الأولويات. ففي حين يقر الجميع بأن الغذاء والماء والصحة أساس لبقاء الإنسان، إلا أن الواقع التطبيقي للنظم الرأسمالية يجعل الربح هو الأولوية الأولى، ما أدى إلى أن تصبح رفاهية قلة من الأغنياء مقدمة على حياة الملايين من الفقراء. يضاف إلى ذلك الانفصام بين الفرد والمجتمع؛ إذ تُطرح الحريات الفردية باعتبارها حاجات أساسية، بينما يُغفل الجانب الجماعي الذي يحفظ التماسك المجتمعي ويضمن العدالة في توزيع الموارد.

 

وهذا الاضطراب يفسر فشل خطط التنمية التي تبنتها الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية في القضاء على الفقر، رغم مرور عقود على إطلاق شعارات "التنمية المستدامة" و"الألفية". فالنتيجة الماثلة اليوم أن ثروة 1% من سكان العالم تعادل ثروة باقي البشر مجتمعين، بينما تزداد أعداد الجياع عاماً بعد عام.

 

النظرية الإسلامية للحاجات:

 

على النقيض من ذلك، جاء الإسلام بمنهج متكامل لتحديد الحاجات الإنسانية وترتيبها، منطلقاً من العقيدة التي تجعل الإنسان مخلوقاً مكرماً مسؤولاً أمام الله، لا مجرد كائن استهلاكي. وقد صاغ الفقهاء هذه الرؤية ضمن ما يُعرف بمقاصد الشريعة، فقسموا الحاجات إلى ثلاث مراتب:

 

1. الضروريات: وهي ما لا تقوم حياة الناس إلا بها، وتشمل حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. ومن لوازم ذلك توفير الغذاء والشراب والملبس والمسكن والأمن والصحة والتعليم والعدل.

2. الحاجيات: وهي ما يحتاج إليه الناس لرفع المشقة عنهم وتيسير حياتهم، كوسائل النقل وأدوات العمل والتنظيم الإداري.

 

3. التحسينيات أو الكماليات: وهي ما يجمّل الحياة ويرفع من مستوى رفاهيتها دون إسراف، مثل الزينة والترف المشروع.

 

هذه الرؤية الإسلامية لا تقتصر على الجانب المادي، بل تشمل الجانب الروحي والأخلاقي والإنساني، ما يجعلها أكثر شمولية واتزاناً، كما أن ترتيبها يقوم على أساس واضح: يبدأ بما يقيم أود الحياة ويحفظ مقاصد الشرع، ثم بما يرفع الحرج، ثم بما يحقق الرفاهية.

 

الحل الشرعي للأزمة العالمية:

 

الإسلام لا يقف عند حدود التنظير، بل يربط ذلك بآليات عملية ضمن نظام الحكم والاقتصاد. فالزكاة والصدقات والوقف وبيت المال كلها أدوات لضمان إشباع حاجات كل فرد، كما أن الدولة الإسلامية مسؤولة شرعاً عن رعاية شؤون الناس، قال رسول الله ﷺ: «الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاري ومسلم).

 

غير أن غياب هذا الكيان السياسي الجامع؛ الخلافة، جعل الأمة تتخبط في نظم وضعية تستنسخ الفشل الغربي. فلو قامت دولة الإسلام بحق، لأعادت ترتيب الأولويات وفق شريعة الله، ولوجهت الثروات إلى إشباع حاجات الناس الأساسية لا إلى جيوب الشركات العملاقة، ولحقّقت التكافل بين أفراد المجتمع على قاعدة العقيدة لا على أساس المصلحة النفعية الضيقة.

 

خاتمة:

 

لقد أثبتت التجربة التاريخية أن الفكر الوضعي، مهما زخرف من شعارات، عاجز عن إنصاف البشرية أو تحقيق العدالة، أما الإسلام فقد قدّم منذ قرون منهجاً متكاملاً يرعى الإنسان جسداً وروحاً، فرداً وجماعة، وليس أمام الأمة اليوم سوى أن تعود إلى هذا المنهج بإقامة كيانها السياسي الشرعي؛ الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي تطبق شرع الله، وتحفظ مقاصده، وتضمن لكل إنسان أن يشبع حاجاته الأساسية في ظل عدل الإسلام ورحمته.

 

 

بقلم: الأستاذ بهاء الحسيني – ولاية العراق

المصدر: جريدة الراية

 

 

 

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع