- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح232) تجبى الزكاة من المسلمين، وتؤخذ على الأموال التي عين الشرع الأخذ منها (4)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ والثَّلاثِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "تُجْبَى الزَّكَاةُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَتُؤْخَذُ عَلَى الأَمْوَالِ الَّتِي عَيَّنَ الشَّرْعُ الأَخْذَ مِنْهَا (4)". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 143: تُجْبَى الزَّكَاةُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَتُؤْخَذُ عَلَى الأَمْوَالِ الَّتِي عَيَّنَ الشَّرْعُ الأَخْذَ مِنْهَا مِنْ نَقْدٍ، وَعُرُوضِ تِجَارَةٍ، وَمَوَاشٍ، وَحُبُوبٍ. وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ غَيرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَتُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مُكَلَّفاً كَالبَالِغِ العَاقِلِ، أَمْ غَيرَ مُكَلَّفٍ كَالصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ، وَتُوضَعُ فِي بَابٍ خَاصٍّ مِنْ بَيتِ المَالُ، وَلَا تُصْرَفُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ القُرآنُ الكَرِيمُ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة، أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ التَتِمَّةُ الثَّالِثَةُ وَالأَخِيرَةُ لِلْمَادَّةِ الثَّالِثَةِ وَالأربَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
وَأَمَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فَإِنَّ دَلِيلَ وُجُوبِهَا الحَدِيثُ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ r كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ» قَالَ الحَافِظُ فِي "بُلُوغِ المَرَام ِمِنْ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ": (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ).
وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو بْنِ حَمَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "أَمَرَنِي عُمَرُ فَقَالَ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ، فَقُلْتُ: مَالِي مَالٌ إِلَّا جِعَابٌ وَأَدَمٌ، فَقَالَ: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا". (أَخرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيرُهُمَا). وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهُا، وَلَمْ تُنْكَرْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعاً، وَالجِعَابُ وَالأَدَمُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَينِهَا، وَهِيَ لَا تُمْلُكُ عَادَةً بِالقَدْرِ الكَبِيرِ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِلبَيعِ، فَيَكُونُ هَذَا قَرِينَة عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُعَدَّةً لِلبَيعِ.
الأمر الثالث: أخذ الزكاة من كل مالك:
وَأَمَّا الأَمْرُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَعنِي أَنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، عَاقِلاً كَانَ أَوْ مَجنُوناً، صَبِيّاً كَانَ أَوْ بَالِغاً. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ فَظَاهِرٌ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ فَلِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالمَالِ، وَهُوَ الحَقُّ الوَحِيدُ الوَاجبُ فِي المَالِ مِنْ حَيثُ هُوَ مَالٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً). (التَّوبة 103)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ). (المعارج 24)، وَفِي الحَدِيثِ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ جَوَاباً لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ «...فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإِسْلامِ... إِلَى أَنْ قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ» مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى المَالِ مِنْ حَيثُ هُوَ مَالٌ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَونِ مَالِكِهِ مُكَلَّفاً أَمْ غَيرُ مُكَلَّفٍ. فَاللهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى المُسْلِمِ المَالِكِ لِلمَالِ حُقُوقاً كَثِيرَةً بِوَصْفِهِ مَالِكاً لِلمَالِ أَيْ غَنِيّاً، فَفَرَضَ عَلَيهِ الجِهَادَ بِالمَالِ، وَفَرَضَ عَلَيهِ إْطْعَامَ الجَائِعِ، وَفَرَضَ عَلَيهِ النَّفَقَةَ، إِلَى غَيرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى المَالِ المَمْلُوكِ لِلْمُسْلِمِ سِوَى حَقٍّ وَاحِدٍ هُوَ الزَّكَاةُ، وَحَصَرَ الحُقُوقَ الوَاجبَةَ فِي المَالِ بِهَا، وَنَفَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَيرُهَا مِنَ الحُقُوقِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الفَرْضِيَّةَ مُسَلَّطَةٌ عَلَى المَالِ مِنْ حَيثُ هُوَ مَالٌ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ كَونِ مَالِكِهِ مُكَلَّفًا أَوْ غَيرَ مُكَلَّفٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَالَ تُؤْخَذُ مِنهُ الزَّكَاةُ وَلَو كَانَ مَالِكُهُ غَيرَ مُكَلَّفٍ، أَيْ وَلَو كَانَ مَالِكُهُ صَبِيّاً أَوْ مَجنُوناً. وَأَيْضاً فَإِنَّ اللهَ حِينَ فَرَضَ عَلَى المُسْلِمِ فُرُوضاً بِوَصْفِهِ مَالِكاً لِلمَالِ أَيْ حُقُوقاً مُتَعَلِّقَةً بِالمَالِ فَرَضَهَا كَذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِ مُطْلَقاً سَوَاءٌ أَكَانَ مُكَلَّفاً أَمْ غَيرَ مُكَلَّفٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ نَفَقَةِ الأَقَارِبِ وَالزَّوجَاتِ، وَأَرْشَ الجِنَايَاتِ، وَقِيَمَ المُتْلَفَاتِ. فَكُلُّهَا وَاجبَةٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالمَالِ، فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالمَالِ. وَفَوقَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيماً لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» أَيْ الزَّكَاةُ، (أَخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وَالدَّارقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّهِ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو)، وَمَعَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ المُثَنَّى بْنِ الصَّبَاح وَفِيهِ مَقَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ مَوقُوفاً عَلَيهِ، وَيُقَاسُ عَلَيهِ المَجْنُونُ بِجَامِعِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي كُلٍّ، فَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهُوَ غَيرُ مُكَلَّفٍ وَجَبَتْ كَذَلِكَ عَلَى المَجْنُونِ.
الأمر الرابع: كون الزكاة توضع في باب خاص في بيت المال:
وَأَمَّا الأَمْرُ الرَّابِعُ، وَهُوَ كَونُ الزَّكَاةِ تُوضَعُ فِي بَابٍ خَاصٍّ فِي بَيتِ الـمَالِ؛ فَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ اسَتَحَقَّهُ المُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ المَالِ. وَكُلُّ حَقٍّ وَجَبَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ فَهُوَ حَقٌّ عَلَى بَيتِ المَالِ. وَالزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ المُسْلِمُونَ، وَلَكِنَّ مَالِكَهَا قَدْ تَعَّينَ بِنَصِّ الشَّارِعِ، فَقَدْ عَيَّنَ الشَّرعُ مَالِكَهَا حِينَ عَيَّنَ الجِهَاتِ الَّتِي تُصْرَفُ إِلَيهَا، وَحَصَرَهَا فِي هَذِهِ الجِهَاتِ الثَّمَانِي وَحْدَهَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). (التَّوبَة 60) وَمَا دَامَتْ قَدْ حُصِرَتْ فِي هَذِهِ الجِهَاتِ فَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ بَيتِ المَالِ، لِأَنَّهَا مَالٌ مُعَيَّنُ الجِهَاتِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ عَلَى غَيرِ جهَاتِهِ، وَبَيتُ المَالِ إِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ إِحْرَازٍ لَهَا، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مْنْ حُقُوقِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ بَيتُ المَالِ هُوَ مَحَلُّ إِحْرَازِهَا لِأَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى الخَلِيفَةِ، وَهُو الَّذِي يُحَصِّلُهَا، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللهِ r: «إِذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إِلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: نَعَمْ، إِذَا أَدَّيْتَهَا إِلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا، فَلَكَ أَجْرُهَا، وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا». (أخرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الهَيثَمِيُّ وَالزَّينُ)، وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الخَصَاصِيَّةِ قَالَ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ قَوْماً مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لَا». (أخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَبدُ الرَّزَّاقِ، وَسَكَتَ عَنهُ الـمُنذِرِيُّ). فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُدْفَعُ لِلخَلِيفَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ وُلَاتَهُ وَعُمَّالَهُ لِتَحْصِيلِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الجِهَاتِ المُعَيَّنَةَ بِرَأْيِهِ وَاجتِهَادِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَحَلَّ حِفْظِهَا هُوَ بَيتُ المَالِ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ حِرْزٍ لَهَا، إِذْ لَا تُصْرَفُ إِلَّا لِجهَاتِهَا المُعَيَّنَةِ، وَلِذَلِكَ تُوضَعُ فِي بَابٍ خَاصٍّ بِهَا. فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَارِدَاتِ بَيْتِ المَالِ لِأَنَّهَا تُدْفَعُ لِلْخَلِيفَةِ، وَيُعَاقِبُ النَّاسَ عَلَيهَا إِنْ تَأَخَّرُوا عَنْ دَفْعِهَا، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُصْرَفُ بِرَأْيِهِ وَاجتِهَادِهِ مُطْلَقاً، بَلْ بِرَأْيِهِ وَاجتِهَادِهِ مَحصُوراً فِي حُدُودِ الجِهَاتِ المُسْتَحَقَّةِ لَهَا لَيسَ غَير.
الأمر الخامس: كون الزكاة لا تصرف إلا لأشخاص مخصوصين:
وَأَمَّا الأَمْرُ الخَامِسُ، وَهُوَ كَونُ الزَّكَاةِ لَا تُصْرَفُ إِلَّا لِأَشْخَاصٍ مَخْصُوصِينَ مُحَدَّدِي الصِّفَةِ وَالعَدَدِ، فِلِأَنَّ اللهَ قَدْ عَيَّنَ مَنْ تُصْرَفُ إِلَيهِ الزَّكَاةُ، وَحَصَرَ صَرْفَهَا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). (التَّوبَة 60) فَقَدْ جَرَى حَصْرُهُمْ فِي لَفْظِ "إِنَّمَا" وَهِيَ تَركِيبٌ مُكَوَّنٌ مِنْ (إنَّ، وَمَا) يُفِيدُ الحَصْرَ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ تُصْرَفَ لِغَيرِهِمْ مُطْلَقاً. وَلِذَلِكَ يَقُولُ الرَّسُولُ r: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». (أخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَحَسَّنَهُ، وَأَخرَجَهُ الحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ وَصَحَّحَهُ). وَيَقُولُ r عَنِ الزَّكَاةِ: «وَلا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ». (أخرَجُهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ). فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُصْرَفُ لِغَيرِ هَذِهِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مُطْلقاً.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.