- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
مناقب ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(ح30) تأصيل اجتهاد عمر رضي الله عنه في مسألة أراضي الفيء
الحَمْدُ للهِ مُنْزِلِ الكِتَابْ، وَمُجْرِي السَّحَابْ، وَهَازِمِ الأَحْزَابِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا محمد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الأَلْبَابْ، وَعَلَى وَزِيرَيهِ: أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقْ، مَنْ لِدَعْوَةِ الحَقِّ استَجَابْ، وَالفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابْ، الحَاكِمِ بِالعَدْلِ، وَالنَّاطِقِ بِالصَّوَابْ، ارزُقنَا الَّلهُمَّ خَلِيفَةً مِثْلَهُ، يَخَافُكَ وَيَتَّقِيكَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْضَى عَنْهُ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابْ، وَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمرَتِهِمْ، بِرَحْمَتِكَ يَا كَرِيمُ يَا وَهَابْ... آمِينَ يَا رَبَّ العَالَـمِينَ.
أيها المؤمنون:
أحبتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"مَنَاقِبُ ثَانِي الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ t ". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّلَاثِينَ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "تَأْصِيلُ اجْتِهَادِ عُمَرَ t فِي مَسْأَلَةِ أَرَاضِي الفَيءِ". نَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ:
قَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ وَمَا أنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَومَ الفُرْقَانِ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (الأنفال 41)
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُوجِبُ قِسْمَةَ كُلِّ غَنَائِمِ الحَرْبِ بَينَ الغَانِمِينَ الَّذِينَ شَارَكُوا فِي الحَرْبِ، سَوَاءٌ أكَانَتْ عَقَارًا أمْ مَالاً مَنقُولاً، وَمَفْهُومُهَا أنَّ خُمْسَ الغَنَائِمِ للهِ وَلِلرَّسُولِ، وَأنَّ الأخْمَاسَ الأرْبَعَةَ البَاقِيَةَ لِلغَانِمِينَ، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ t تَرَكَ العَمَلَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَمْدًا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقتَضَاهَا، وَلَمْ يَقْسِمِ الأرْضَ الـمَغنُومَةَ. فَهَذِهِ الآيَةُ قَطعِيَّةُ الثُّبُوتِ شَأنُهَا شَأنُ كُلِّ القُرآنِ، فَهُوَ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ اليَقِينِيِّ الَّذِي لا رَيبَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا لَيسَتْ قَطعِيَّةَ الدَّلالَةِ، وَلا يَمْلِكُ فَقِيهٌ بَصِيرٌ بِالقُرآنِ وَبِاللُّغَةِ وَدَلالاتِهَا أنْ يَزْعُمَ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ دَلالَةً قَطعِيَّةً عَلَى أنَّهَا تَشمَلُ كُلَّ مَا غُنِمَ مِنْ أمْوَالٍ مَنقُولَةٍ، وَغَيرِ مَنقُولَةٍ حَتَّى تَشمَلَ العَقَارَاتِ، وَالأرَضِينَ، وَالجِبَالَ، وَالأنهَارَ؛ لأنَّ حَقِيقَةَ مَا يَغنَمُهُ الإِنسَانُ فِي الحَرْبِ هُوَ مَا يَحُوزُهُ بِالفِعْلِ، وَيَستَولِي عَلَيهِ، وَهَذَا مَعقُولٌ، وَمُشَاهَدٌ فِي الكِرَاعِ، وَالسِّلاحِ، وَالثِّيَابِ، وَالنُّقُودِ، وَالأدَوَاتِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمكِنُ أخْذُهُ وَحَمْلُهُ وَنَقْلُهُ. بِخِلافِ الأرَاضِي الشَّاسِعَةِ، وَالسُّهُولِ الوَاسِعَةِ، وَالجِبَالِ الشَّامِخَةِ، وَالأنهَارِ العَظِيمَةِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ: إِنَّهُ حَازَهَا وَاستَولَى عَلَيهَا إِلاَّ بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الاستِعمَالِ اللُّغَوِيِّ عَلَى سَبِيلِ المَجَازِ لا عَلَى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ؟! فَكَأنَّ عُمَرَ t قَالَ لِلصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَارَضُوهُ وَطَلَبُوا قِسْمَتَهَا عَلَيهِمْ: "إِنَّكُمْ لَمْ تَغنَمُوا هَذِهِ الأرْضَ عَلَى وَجْهِ الحَقِيقَةِ، فَلا دَلِيلَ لَكُمْ فِي آيَةِ الغَنِيمَةِ؛ لأنَّهَا فِي الـمَنقُولاتِ وَمَا شَابَهَهَا. وَإِذَا كَانَ عُمَرُ t لَمْ يُخَالِفْ نَصًا قَطعِيًّا بِتَركِهِ العَمَلَ بِآيَةِ تَوزِيعِ الغَنِيمَةِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ أوْلَى لَمْ يُخَالِفُ نَصًا قَطعِيًّا، إِذْ لَمْ يَأخُذْ بِالتَّقسِيمِ النَّبَوِيِّ لِغَنَائِمِ خَيبَرَ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِيمَا يَأتِي:
- أَوَّلًا: إِنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لا يَدُلُّ بِذَاتِهِ عَلَى الوُجُوبِ، فَلا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ أُخْرَى مُصَاحِبَةٍ لَهُ لا بِهَذَا الفِعْلِ وَحْدَهُ؛ وَلَيسَ فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَادٍّ لِفِعْلِ عُمَرَ، وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم اتَّبَعَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَعَمِلَ بِهَا، وَاتَّبَعَ عُمَرُ آيَةً أُخرَى فَعَمِلَ بِهَا، وَهُمَا آيَتَانِ مُحكَمَتَانِ فِيمَا يَنَالُ المسْلِمُونَ مِنْ أمْوَالِ المشرِكِينَ؛ وَلِهَذَا وَسِعَ عُمَرَ t وَمَنْ وَافَقَهُ وَأشَارَ عَلَيهِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مِنْ أمثَالِ عَلِيٍّ، وَمُعَاذَ أنْ يُخَالِفُوهُ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرًا، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفُوهُ حَقِيقَةً.
- ثَانيًا: إنَّ كَثِيرًا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ النَّبَوِيَّةِ تَدخُلُ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ وَالإِدَارَةِ وَالاقتِصَادِ، وَهِيَ تَصَرُّفَاتٌ بِوَصْفِ الإِمَامَةِ لا بِوَصْفِ التَّبلِيغِ عَنِ اللهِ، أيْ أنَّهَا قَرَارٌ مِنْ قَرَارَاتِ السُّلطَةِ السِّيَاسِيَّةِ أوِ الإِدَارِيَّةِ العُلْيَا، اتَّخَذَهُ الرَّسُولُ الكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ حُسْنِ الرِّعَايَةِ، وَهُوَ بِهَذَا يَسُنُّ لِلأئِمَّةِ مِنْ بَعدِهِ أنْ يَتَصَرَّفُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَا تَصَرَّفَ.
- ثَالِثًا: إِنَّ السنَّةَ النَّبوِيَّةَ ثَبَتَ فِيهَا تَقسِيمُ الأرْضِ، وَتَركُ تَقسِيمِ الأرْضِ، وَكِلاهُمَا سُنَّةٌ مُتَّبعَةٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيرَةِ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ عَنوَةً وَلَو فِي جُزْءٍ مِنهَا عَلَى الأقَلِّ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُقَسِّمْ أرْضَهَا وَلا دُورَهَا، بَلْ تَرَكَهَا فِي أيْدِي أهْلِهَا، فَعُلِمَ جَوَازُ الأمْرَينِ، فَالنَّتِيجَةُ أنَّ قِسْمَةَ الأرَضِ المفتُوحَةِ سُنَّةٌ، وَعَدَمَ قِسْمَتِهَا سُنَّةٌ أيضًا، وَهَذَا لا يُنَازِعُ فِيهِ مُنَازِعٌ، وَفِيهِ مُتَّسَعٌ لاقتِدَاءِ عُمَرَ t بِهِ.
- رَابِعًا: يُؤَكِّدُ هَذَا مَا جَاءَتْ بِهِ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ، وَهِيَ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَسِّمْ كُلَّ أرْضِ خَيبَرَ، بَلْ قَسَّمَ بَعضًا وَتَرَكَ بَعضًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَاتِهِ بِاعتِبَارِهِ مَسئُولاً عَنِ الأُمَّةِ. فَقَدْ ذَكَرَ ابنُ قُدَامَةَ فِي المغنِي أنَّ كِلا الأمرَينِ مِنَ القِسْمَةِ وَعَدَمِهَا قَد ثَبَتَ فِيهِ حُجَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ قَسَّمَ نِصْفَ خَيبَرَ، وَوَقَفَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أبُو عُبَيدٍ فِي الأمْوَالِ.
- خَامِسًا: وَنُضِيفُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ استَنَادَ عُمَرَ t إِلَى القُرآنِ، فَقَدِ احتَجَّ بِالآيَةِ الـمُتَعَلِّقَةِ بِتَوزِيعِ الفَيءِ، وَهِيَ الآيَةُ العَاشِرَةُ مِنْ سُورَةِ الحَشْرِ الَّتِي وَجَدَ فِيهَا ضَالَّتَهُ الَّتِي يَنشُدُهَا، وَهِيَ قَولُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَاتَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). (الحشر10)
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ: محمد أحمد النادي