- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
العقل الذي صادَرته المناهج
كيف تحوّلت مؤسساتنا التعليمية إلى أداة لإطفاء التفكير لا إشعاله؟
هل خطر ببالك يوماً أن المؤسسات التعليمية حولنا قد لا تكون موجودة لتوسيع الفكر، بل لتطويعه وحصره داخل إطار ضيق لا يسمح له إلا أن يتحرك في حدود رسمها غيره؟
إنك حين تتأمل واقع الجامعات والمدارس في بلادنا تجد شيئاً مُريباً:
منظومة كاملة تبدو في ظاهرها كأنها تبني الإنسان، لكنها في حقيقتها ترسم له سقفاً منخفضاً لا يتجاوز دوره فيه أن يكون متلقياً مطيعاً لا مفكراً حراً. الدكتور الجامعي نفسه كثيراً ما يُلزَم بالسير في منهج محدد لا يحيد عنه، والمدرس في المدرسة يجري على خطة مرسومة لا يملك تغييرها، بل حتى المشاريع التي تُمنح للطلاب لا تقيس قدرتهم على التفكير بقدر ما تقيس مدى التزامهم بالنموذج الموضوع لهم. والعجيب أن هذه المنظومة نفسها حين تلمح بارقة عبقرية لدى أحد الطلاب تسعى فوراً لتصديرها للخارج حيث تستفيد منها الدول المستعمِرة، بينما تُلقي بالآخرين إلى أنهم "غير مجتهدين بما يكفي"، وكأن فطرة الإنسان لا تنمو إلا داخل صندوق من المعايير الجاهزة.
ومع ذلك، حين ننظر بصدق إلى ما نعيشه اليوم، نفهم أن الأمر ليس مجرد نقد عابر للتعليم، بل انعكاس لأزمة أعمق في المجتمع كله. إن الضيق الذي يشعر به الطالب، وصوت المعلّم المكبوت، والمفكر الذي يجد نفسه محاصراً بين روتين إداري وتوجّه رسمي، كلها ليست مشاهد منفصلة، بل مظهر واحد لفقدان الثقة في عقل الإنسان وقدرته على التفكير الحر. لذلك لا عجب أن نرى شباباً فقدوا الحافز، وآخرين يخلطون بين قيمة العلم في ذاته وبين معركة "الدرجات والشهادات". بل من العجيب أن كثيراً من الناس بات يظن أن الزمن الذهبي للإسلام كان صفحة جميلة وأُغلقت، وأن التفكير في بعث الحياة الإسلامية ضرب من الخيال. هذه الفجوة بين ما نعيشه وما ينبغي أن نعيشه تصنع ذلك الانكسار الداخلي: إحساس بالحقيقة يقابله شعور بالعجز عن الحركة.
وحين نعيد النظر في تاريخ العلماء المسلمين، نرى المشهد على النقيض تماماً. فطالب العلم عند المسلمين الأوائل كان يبدأ مساره من قواعد شرعية واضحة، ينطلق منها بصدق وسؤال وتفكير، ثم يعرض نتاجه على أهل العلم المتخصصين لا على نموذج جامد. فإذا صحّ منهجه تبنّته الأمة، واستفادت منه الدولة، ودخل مباشرة إلى حيّز التطبيق. هكذا ظهر الشافعي الذي وضع أصول علم كامل وهو شاب، والنووي الذي ملأ الدنيا علماً رغم عمره القصير، وابن حجر وابن تيمية اللذان خاضا الحوار والنقد والمراجعة دون خوف من سلطة علمية أو سياسية. إنهم نماذج تقول لك إن الإسلام لم يكن يوماً عائقاً أمام العلم، بل محرّكاً له، لأنه قدّم رؤية ثابتة للحق، ومعياراً واضحاً للصدق، ومنهجاً لا يتلون بتغيّر المناخ السياسي ولا بإملاءات المؤسسة.
وأجمل ما في هذا الإدراك الجديد أنك تستطيع من اللحظة التي تغلق فيها هذا التعليق أن تخطو خطوة عملية صغيرة تعيد ترتيب علاقتك بالعلم. أن تقارن مثلاً بين درسٍ تعلّمته في المدرسة كحفظٍ جامد وبين كيف كان العلماء يختبرون المسائل بالبحث والنقاش. أو أن تقرأ صفحة من سيرة إمام عاش حراً بعلمه لتعرف أن المشكلة ليست في العقل العربي، بل في القوالب التي فُرضت عليه. وحين ترى هذا الفارق ستدرك أن السؤال الحقيقي ليس: لماذا لا نتقدّم؟ بل: كيف قبلنا أن نعيش في منظومة تعليمية تُشبه القيد أكثر مما تُشبه الباب؟
﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الهادي عبد الله – ولاية مصر



