- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
جبهة صراع الإسلام والغرب
بين براهين تصنع الحضارة الإسلامية وسرديّاتها، وسرديات غربية تصنعها خيالات ومزاعم لا أساس لها
كثُر بعد حرب يهود وأمريكا والغرب على غزة استعمال تعبير "السردية"، في سياق التغيرات الكبيرة في الرأي العام الغربي والعالمي تجاه يهود وكيانهم وداعميهم في الحرب على غزة ومحيطها. وظهر جلياً انقلاب المواقف من يهود وكيانهم من إيجابية ومؤيدة إلى سلبية كارهة ومعادية لهم. ومن معادية للفلسطينيين والمسلمين عموماً إلى داعمة ومؤيدة؛ وذلك بسبب ممارسات يهود الوحشية التي تجاوزت كل حدود الفطرة الإنسانية، ولم تعد قابلة للتفهم تحت أية ذريعة. فانتشرت تعابير "السردية" و"تغيُّر السردية" أو "انقلاب السردية" بشكل كبير في الإعلام العربي والغربي والعالمي، وفي حوارات الناس وكتاباتهم.
لقد بدأ التغير الانقلابي في الرأي العام الغربي والعالمي من كيان يهود وممارساته، بعد فترة قصيرة من الحرب على غزة، وأخذ يزداد قوةً وجلاءً إلى أن بلغ حداً خطيراً بنظر أوروبا ثم أمريكا؛ وذلك لأن لكيان يهود وجيشه دوراً أساسياً وثابتاً في استراتيجياتهم. وكانت هذه الحرب قد حظيت في بدايتها بتأييد الشعوب الغربية، وذلك بسبب السرديات والقصص التي انتشرت وترسخت فيهم على مدى عقود طويلة، وهي سرديات تصور الغربيين أبطالاً وقدوةً للبشرية وأهل فضلٍ عليها، وتصوِّر خصومهم كالعرب والمسلمين بأنهم متطرفون وإرهابيون معتدون، وحاقدون على الغرب ويهود، وتصور يهود بأنهم مهدَّدون من العرب والفلسطينيين وفي خوف دائم منهم، وتثير الإسلاموفوبيا وتؤجج الكراهية والحقد ضد كل ما هو إسلامي.
ثم جاءت ممارسات يهود المدعومة من أمريكا والغرب، لتنقض تلك السرديات عند الغربيين، فقد كانت المشاهَدات المحسوسة أقوى منها، وهي أصلاً أساس إثبات الحقائق، والمقياس لصحة السرديات وصدق الأخبار. ولذلك كان من تداعيات هذه الحرب أنها حركت مشاعر، وأيقظت أحاسيس، ونبهت عقولاً لتثير تساؤلات وتشكيكات: ما هذه المفاهيم الكاذبة التي ورثناها ونبني عليها مواقفنا؟! ما هذا الدجل الذي ران على قلوبنا؟! ومَن هؤلاء الذين يعبِّئوننا بهذه المعلومات الخاطئة، والسرديات الخداعة منذ ولادتنا إلى اليوم، ولماذا؟
لقد حصل هذا الأمر، وأدى تلقائياً إلى نتائج جيدة وواعدة لجهة تغيير مواقف شعبية في الغرب لصالح المسلمين، ولجهة دخول كثير من الغربيين في الإسلام، ولجهة تشكيكهم بحكامهم. وهذا الأمر من أهم جبهات الصراع بين الإسلام والغرب. لذلك كان فرصةً يجب استثمارها بأقصى ما يمكن لأهداف فكرية وسياسية. ولهذا الاستثمار أساليبه التي تحتاج لطاقات المسلمين الدعوية والفكرية والعلمية في مختلف التخصصات، وشتى مجالات العلاقات، لتقوم بالخطاب والتفاعل، وبما يمكن من أنشطة التغيير الفكري والسياسي.
لذلك، ينبغي التنبه إلى فرق مهم في هذا الصراع؛ فرقٍ يرجع إلى محدِّدات كلٍّ من المفاهيم والمواقف الإسلامية وتلك الغربية، وهي أن الإسلام لا يعتمد على سرديات وقصص لإيجاد مفاهيم وتقرير مواقف، بل هو يستند إلى براهين وأدلة عقلية هي أساس تعيين المفاهيم وتقرير المواقف. وهذا بخلاف الغرب الذي لا تستند حضارته إلى أدلة أو براهين، وإنما هي نتاج توافقات وحلول وسطية تعتمد على العادات والموروثات والمنافع. ولذلك يحتالون لها باختلاق بطولات وقصص جذابة وحكايات مكررة. فتنشأ بذلك مجتمعات ترضى بما هي عليه وتنساق له، على طريقة الأقوام الذين كانوا يواجهون أنبياءهم بقولهم: ﴿بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾، و﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾. فينبغي استغلال هذا الفرق بين مستندات الفكر الإسلامي العميقة الجذور، ومستندات الفكر الغربي العائمة والهشة، لأجل تصديع بنية المجتمع الغربي، وتوهين روابطه، ودفع أبنائه لإعادة النظر بمفاهيمهم وسردياتهم ودولتهم.
فالمجتمعات الغربية لا غنى لها عن السرديات لإضفاء قوة على هويتها ورابطتها. وعلى سبيل المثال صوَّرت الباحثة في جامعة ستوكهولم بالسويد سوزان أولسون في دراسة لها بعنوان "سردية حزب التحرير الطوباويةُ (المثالية) المضادةُ للغرب عن الخلافة"، أنّ الصراع بين الإسلام والغرب هو صراع سرديات، وقدمت أفكار حزب التحرير بوصفها سردية مضادة للسردية الغربية. ومما قالته عن أهمية السردية وخصائصها: "السردية ليست مجرد قصة، بل هي تتكون من عدة قصص، تُشكل كُلاً منهجياً ومتماسكاً... يُعرَّف السرد بأنه: نظام متماسك من القصص المترابطة والمنظمة تسلسلياً، وبأنه: خطاب يُنتج المعنى من خلال بناء الموضوعات والواقع الاجتماعي... [هو] سردٌ عابرٌ للتاريخ، متأصل بعمق في ثقافة معينة". ومن النصوص الغربية أيضاً عن السرديات: "تُعدُّ السرديات السياسية أدواتٍ شديدة التأثير، فهي تمنح الأفراد القدرة على فهم عالم معقد... وتقدم التوجيه للضالين والحائرين، وتزداد قوتها حين تُكّرَّر وتُروى بحماسة بالغة، ممزوجة بعاطفة جارفة... فالإنسان بطبعه يميّل إلى التعلق بقصة تعيد تشكيل رؤيته للعالم كأنها نظارات جديدة يستخدمها لرؤية العالم من منظور مختلف".
لا يسمح المقام بزيادة بيان أهمية السرديات للمجتمعات الغربية، ولكنّ هذا الأمر مفروغ منه. لذلك كان من الأهمية بمكان الوقوف على الفرق بين الإسلام والغرب بهذا الشأن، وعلى مواضع أو مواضيع الصراع المجدي فيه.
إن السرديات وما تتضمنه من حكايات وقصص هي عموماً مؤلفات تدور حول أحداث أو قيم أو شخصيات، يتم تعميمها في جماعة أو مجتمع أو شعب، لتتضافر على تركيز مفاهيم وميولٍ وتطلعات معينة، ولتشكِّل رابطة فكرية ينتج عنها بسبب الحاجات ولاءاتٌ وروابط دينية أو سياسية أو وطنية، وتصنع بعد ذلك هوية. ثم يتم تركيز الهوية بتزيينها بصور من بطولات ومواقف مشرِّفة تُلصق بها، وبإضفاء معانٍ جذابة عليها، لأجل ترسيخ التعلق بها وتقويتها. فهي سرديات تستهدف صناعة رابطة وولاء وهوية موحدة للجماعة. والاهتمام بهذا النوع من السرديات موجود في كل العالم، ولكنه حاجة ضرورية للغرب، لأن دوله تعيش على أساس نظام رأسمالي لا يستند إلى أساس فكري مقنع، ولا تملك أساساً سليماً لإنشاء هوية قوية وراسخة.
ولا شكَّ أنَّ هناك في السرديات ما هو صحيح، ويتم تناقله، كما يتم تناقل أخبار المعارك والأشعار والأحداث اللافتة. ولكن هذه لا تكفي لترسيخ رابطة وهوية واستمراريتها، لذلك هم يتدخلون فيها تعديلاً وتحريفاً، ويؤلفون ما يحتاجونه أو يناسبهم ولو لم يكن له أصل، فينسبون لأنفسهم بطولاتٍ وإنجازات، وأعمالاً إنسانية وقيماً ومواقف مشرِّفة لا برهان عليها. وهكذا يُحرِّفون سرديات ويخترعون أخرى، فيطمسون قصص هزائم وخزي عندهم، ويروِّجون لما يحبون أن يُحمدوا به، ليصنعوا لأنفسهم هويةً وكياناً. ومهما كان شأن هذا الكيان ورابطة مجتمعه، فهو ضعيف نسبياً وقابل للتفكك عند انكشاف تلك السرديات، لذلك ينبغي تتبعها وتفنيد المُفترى منها. وهو قابل للانهيار عند مواجهته برابطة أو هويةٍ أصح منه فكراً وأحكمَ ربطاً، لذلك ينبغي إعطاء أولوية لخوض هذه المواجهة. وينبغي أيضاً إدراك أنّ الواقعين في حبائل هذه السرديات هم ضحايا لها. وأنهم بالفعل صمٌّ وعميٌ، لأنهم مُغَفَّلون وغافلون عن حقيقة أن الرابطة والهوية لا تأتي من السرديات مهما كانت جذابة أو جميلة. فكلُّ الناس والجماعات لديهم في تاريخهم انتصارات وهزائم، وصوابٌ وخطأ وحقٌ وباطل. وينبغي أيضاً مخاطبة المجتمع الغربي بأن المصدر الصحيح للرابطة والهوية هو الفكر الذي يقررهما، وليس الترويض أو التعويد أو الحكايات المكررة. ولذلك، فإن السرديات لا تشكل أكثر من معلومات يستفاد منها في فهم المجتمعات والأحداث وأخذ العِبَر. وهذا لا ينفي أن المسلمين عندهم من السرديات والروايات ما يفتخرون به ويحملهم على الاندفاع لصناعة البطولات والإنجازات العظيمة، بل عندهم منها ما لا يملك غيرُهم عُشره ولا عشر معشاره، ولكن دور هذه الأشياء يقتصر على التربية والتعليم والتحفيز، ويأتي بعد تأسيس الهوية والرابطة التي تصنع المواقف والأحداث، وتكتب التاريخ وسرديَّاته، وتهيِّئ للمستقبل وتطلعاته.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمود عبد الهادي



