الإثنين، 09 رجب 1447هـ| 2025/12/29م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

مقالة الأوضاع السياسية في مصر في ظل ما يسمى بثورات الربيع العربي

  • نشر في أخرى
  • قيم الموضوع
    (0 أصوات)
  • قراءة: 1558 مرات

 


الحمد لله, والصّلاة والسّلام على رسول الله, وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدّين, واجعلنا اللّهمّ معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.


الإخوة الكرام: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: موضوع حلقتنا لهذه اللّيلة بعنوان: "الأوضاع السّياسيّة في مصر في ظلّ ما يسمّى بثورات الرّبيع العربيّ".


تشهد المنطقة العربيّة حراكًا متميّزًا لخلع الأنظمة الفاسدة التّابعة للأجنبيّ, تلك الأنظمة التي أرهقت الأمّة, واستنزفت خيراتها, ودمّرت مقدّراتها, وجعلتها لقمةً سائغةً لمن اشتهى من أعدائها, وفيما نجح بعض الثّائرين في إسقاط العروش المهترئة, إلاّ أنّ عمليّة التّغيير التي تجري بحماسٍ كبير, تفتقد وتفتقر إلى رؤيةٍ واحدةٍ واضحةٍ محدّدة, نابعةٍ من عقيدة الأمّة وثقافتها وتراثها.


لقد خرجت جموع المصريّين بالملايين, وبشكلٍ متصاعد, وبوتيرةٍ سريعة, في صورةٍ من أندر صور التّاريخ البشريّ, مثبتين أنّ مصر هي كنانة الرّجال, في صورةٍ جعلت قلوب مسلمي العالم, تهفو إليهم, وتدعو الله أن يهيّء لهذه الجموع الهائلة, قيادةً واعيةً وحكيمةً ومخلصةً لله تعالى, تقيم حكم الله, ليس في مصر وحدها, بل في العالم كلّه. كانت ثورة الشّعب عفويةً ذاتيّة, ولم يكن لها قيادة, ولا مشروعٌ محدّد, ولا رؤيةٌ واضحة, سوى هدفٍ واحدٍ محدّد, وهو إسقاط النّظام, ولم يتوقّع أحد, أن تنفجر الثّورة بهذه الصّورة, وأصيب الغرب بالقلق والإرباك, حيث لم يكونوا جاهزين لهكذا أحداث, هزّت العالم الإسلاميّ, وشغلت العالم كلّه.


الإخوة الكرام: نجحت الثّورة في كسب معركةٍ مع النّظام الحاكم, ولكنّها لم تكسب الصّراع بعد, حيث إنّ النّظام لم يسقط بالكامل, وإن سقطت واجهته السّياسيّة, فالنّظام في مصر, كان متمثّلاً في وجهين: الأوّل سياسيٌّ على رأسه مبارك, والآخر عسكريّ, يتمثّل بالمجلس العسكريّ, فقد كانوا شركاء في الحكم, وساذجٌ من يظنّ أنّ مبارك, كان يحكم دون دعم العسكر, فسنده ليس شعبيًا, وكلّ انتخاباته كانت مزوّرة, فكيف كان يحكم, أكثر من ثمانين مليون مصريّ, دون دعم كبار الجنرالات؟ لم يكن تخلّي أمريكا عن مبارك, بتلك السّرعة التي تمّت تحت ضغط الثّورة, إلاّ لأنّها كانت مطمئنّة, إلى أنّ الأمور لن تخرج من يدها, حين تنتقل السّلطة إلى المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة, فقامت أمريكا بالتّدريب والتّخطيط, فقد ظهرت وثيقةٌ أمريكيّة عقب تنحّي مبارك, تحدّثت عن خطّة أوباما, لإجهاض ثورة مصر, والتي تقوم على أساس حفظ نفوذ أمريكا, من خلال هيمنة المؤسّسة العسكريّة على الدّولة, وقد وضعت تكتيكاتٌ معيّنة, للسّير في هذه الخطّة على مرحلتين:


المرحلة الأولى: وتسمّى بالمرحلة الانتقالية, يتسلّم المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة, خلالها الحكم بشكلٍ مباشر, ويتمّ فيها إجراء تعديلاتٍ شكليةٍ على الدّستور, وانتخاباتٍ عاجلةٍ تضمن مساهمةً فعّالة, للتّيار الإسلاميّ في البرلمان, وقد تمّ استفتاءٌ على التّعديلات الدّستوريّة التي ترأّس لجنتها التّحضيريّة, المستشار "طارق البشريّ" المحسوب على التّيار الإسلاميّ, إضافةً إلى الشّخصيّة الإخوانيّة المعروفة, المحامي "صبحي الصّالح", فيما فهم منه, محاولةٌ لكسب ودّ التّيار الإسلاميّ, وقد تمّ تسويق الاستفتاء للرّأي العامّ حينها, على اعتبار أنّه تصويت, لصالح إبقاء المادّة الثانية من الدّستور, التي تنصّ على أنّ "الشّريعة الإسلاميّة, هي المصدر الأساسيّ للتّشريع", فكانت النّتيجة ثمانيةً وسبعين بالمئة بالموافقة, في مقابل اثنين وعشرين بالمئة بالمعارضة. وقد اعتبر المجلس العسكريّ, أنّ نتائج الاستفتاء الإيجابيّة, تمنحه ضمنيًا, الشّرعيّة اللاّزمة للاستمرار, بالتّحكّم في شؤون البلاد, إذ اعتبر الموافقة على التّعديلات, موافقةً على دوره في الحياة العامّة, وهو ما دفع المجلس العسكريّ إلى الإعلان, بأنّه لن يخضع لمطالب المتظاهرين بالتّنحّي عن السّلطة, سوى من خلال استفتاءٍ شعبيٍّ جديد, يطالب بترك السّلطة.


المرحلة الثانية: مرحلة النّظام الجديد: وتتعلّق باستنساخ النّموذج الباكستانيّ في مصر, حيث تقف المؤسّسة العسكريّة, وراء السّتار كسلطةٍ حاكمةٍ فعليًا, فيما تضع على المسرح التّيارات السّياسيّة الرائجة في المجتمع, وعلى رأسها التيّار الإسلاميّ, بشقّيه السّلفيّ والإخوانيّ, من خلال صفقاتٍ ظهرت تداعياتها جليّة, على السّاحة الإعلاميّة والفكريّة والسّياسيّة, في المرحلة الانتقاليّة, كما حاول اجتذاب النّخب العلمانيّة له, من خلال وثيقة المبادئ الأساسيّة للدّستور, التي تضمن علمانيّة الدّولة, تحت اسم الدّولة المدنيّة الدّيمقراطيّة, وبهذا نصّب المجلس العسكريّ نفسه وصيًا على الدّولة, وحكمًا على النّخب والتّيارات السّياسيّة, فمنح الإسلاميّين إمكانيّة العمل بشكلٍ مفتوح, في الشّارع والبرلمان والحكومة, شريطة بقائهم ضمن التّوجّهات السّياسيّة للعسكر, داخليًا وخارجيًا, وضمن للتيّار العلمانيّ, مشروع الدّولة العلمانيّة, من خلال تعهّده بالحفاظ على مدنيّة الدّولة, واعتبارها خطًا أحمر.


الإخوة الكرام: ومن أوضح الشّواهد, على أنّ المجلس العسكريّ, هو الوجه الآخر لنظام مباركٍ العميل لأمريكا, الشّواهد الآتية:


أولاً: حاول الجنرالات عدّة مرّات, إقناع الثّوار بترك الميدان, ولكن دون جدوى, حيث لم يجدوا سوى الثّبات والإصرار من قبل الثّوار, ولو أنّ الثّوار أظهروا ضعفًا, لكانت أخمدت ثورتهم.


ثانيًا: ثمّ إنّ الثّوار في الميدان لأيّامٍ وليال, تعرّضوا لعدوان بلطجيّة النّظام, ولكنّ الجنرالات لم يحرّكوا ساكنًا. ما أدّى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى, وحاول الجنرالات إخافة المعتصمين, من خلال تحليق الطّائرات الحربيّة, فوق رؤوسهم في ميدان التّحرير, وتمسّكوا بحكومة "أحمد نظيف", التي عيّنها مبارك لضرب الثّورة, ولم يقرّروا حلّها إلاّ تحت ضغط الشّارع.


ثالثًا: ولم يلغ قانون الطّوارئ, ما يعني أنّ المجلس العسكريّ, يحمل العقيدة الأمنيّة نفسها نحو الشّعب, ولم تجر أيّ إعادة, لبناء أجهزة الدّولة الأمنيّة, التي بناها نظام مبارك, على عقيدةٍ أمنيّةٍ شرّيرة.


رابعًا: تمّ اعتقال اثنين وعشرين ألف مدنيّ, في عهد المجلس العسكريّ الأوّل, وتمّ محاكمة أكثرهم أمام محاكم عسكريّة, بينما لم تجر محاكمة مباركٍ وأعوانه, إلاّ تحت ضغط الشّارع, وتمّت محاكمتهم محاكمةً صوريّة, أمام محاكم مدنيّة.


خامسًا: لم يلتزم المجلس العسكريّ بمدّة ستّة أشهر, التي وعد بتسليم السّلطة خلالها لسلطةٍ مدنيّة, وتعمّد تعميم الفوضى في البلاد؛ ليدفع النّاس للتّرحّم على عهد مبارك, ثمّ ارتكبت عدّة مجازر في عهد هذا المجلس, مثل مجزرة شارع محمّد محمود, ومجزرة مجلس الوزراء, ومجزرة استاد بور سعيد, التي أراد فيها زيادة الشّقاق بين المسلمين والأقباط, كما كان يفعل مبارك, ممّا يدفع مصر باتّجاه السّياسة الأمريكيّة, التي تعمل على تقسيم مصر.


سادسًا: ثمّ حاول المجلس وعبر وثيقة السّلمي, أن يمنح لنفسه سلطاتٍ واسعة, تجعله مطلق الصّلاحيّة, في تسيير البلاد, مع ديكورٍ انتخابيٍّ ينقلب عليه حين يشاء, وبالفعل وبأمرٍ من المحكمة الدّستوريّة, وبإشرافٍ من المجلس العسكريّ, تمّ حلّ مجلس الشّعب.


سابعًا: والأمر الأخطر من سياسة هذا المجلس, موقفه من الإسلام, حيث سعى إلى تضمين وثيقة السّلمي, مادّةً تقول بمدنيّة الدّولة أي بعلمانيّتها, ولم تتغيّر علاقته بكيان يهود, بل أعلن التزامه باتّفاقيّة كمب ديفد الخيانيّة.


ثامنًا: لقد أثبتت الشّهور التي حكم فيها المجلس العسكريّ, أنّه لا يكنّ لأهل مصر الحبّ والاحترام, ولا الشّعور بالمسؤوليّة عن حمايته, وأنّ عقيدته لم تتغيّر, تلك العقيدة, التي لا ترى الخطر في كيان يهود, ومن ورائه الأمريكان, بل كان يرى الخطر من أهل مصر الطّيبين, فقد فقئت العيون في عهده, وسحلت الجثث, وألقيت في المزابل, وانتهكت الأعراض, ودنّست المساجد, وتمّ إصدار قانون ما يسمّى, بكشف العذريّة عن النّساء المعتقلات, والذي أمر بذلك وأشرف عليه, وزير الدّفاع الحاليّ, ومدير المخابرات الحربيّة السّابق عبد الفتّاح السّيسيّ, ثم بعد ذلك أشرف على انتخاباتٍ رئاسيّة, كانت تحت رعايته هو وأمريكا, التي تحرّك كلّ شيءٍ في مصر آنذاك.


الإخوة الكرام: ووصل إلى الحكم جماعة الإخوان المسلمين, وإن شئت فقل: وصل إلى الحكم "الإسلام المعتدل", الذي تفتخر حركة الإخوان بتمثيله وريادته, مع كونه فكرًا غربيًا بقشورٍ إسلاميّة, فإنّ الدّور المرسوم غربيًا يتلخّص بإحلاله بديلاً عن الإسلام الحقيقيّ, المتميّز بنظامه السّياسيّ, وبمعالجاته الأخلاقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وشتّى شؤون الحياة. وعليه فإنّ أيّ إنجازٍ ممكنٍ لتيّار الإسلام المعتدل الذي رفع شعار: "الإسلام هو الحلّ" في ظلّ معطيات الواقع والقوى المتحكّمة فيه, لن يتحقّق إلاّ بعيدًا عن الإسلام, ما يعني أنّ الحلّ يمكن أن يكون غير إسلاميّ, على عكس الشّعار الذي رفع, وبالتّالي يتمّ به تكريس فصل الدّين عن الحياة. وفي حالة تعقّد الوضع وازدياد المشاكل وتراكمها, كما جرى فسيعزى ذلك إلى قصور الإسلام وعجزه, رغم أنّ الإسلام بريءٌ من التّجربة برمّتها جملةً وتفصيلاً.


هكذا صنع خصوم الإسلام, أصحاب الإسلام المعتدل, صنعوا الذّريعة, لإعلان فشل الإسلام كنظام حكمٍ من خلال التّجربة العمليّة, ولإسقاط شعار: "الإسلام هو الحلّ" بأيدي أصحابه الذين رفعوه, مع أنّ هذا الفشل ليس بسبب الإسلام, كما يصوّر الغرب وتنعق أبواقه, وإنّما بسبب تحريف الإسلام, وكتمان أحكامه الصّحيحة, أي بسبب تطويع هؤلاء للإسلام لينسجم مع الثّقافة الغربيّة, وبسبب التّصوّرات للحياة ولطريقة العيش, تلك التي تعتمد المصلحة النّسبيّة, كزاويةٍ لها في كافّة سياساتها ومعالجاتها.


الإخوة الكرام: والغريب أنّ الإسلاميّين قبلوا خوض التّجربة, على أسس وشروط وقوانين غيرهم, ممّا أدّى إلى ما نشهده من اضطرابٍ ومشاكل, وتنافرٍ بين مختلف القوى السّياسيّة. لقد وصل الإخوان المسلمون إلى حكم مصر, بعد أن نحّوا الإسلام جانبًا, واضطروا لقبول فلول الأنظمة السّاقطة ومخلّفاتها, ليشاركوهم في السّلطة وينافسوهم, بل ويبتزّوهم ويسلبوا منهم القرار, ويتحكّموا بدفّة حكم البلاد, في مرحلةٍ من أدقّ المراحل التي تمرّ بها. لم يحاول الإسلاميّون إحداث تغييراتٍ حقيقيّة, أو ذات بالٍ في الدّستور والقانون, وفي فلسفة الحكم وسياسات الدّولة, فأبقوا الدّولة بين فكّي من يفترسها من دولٍ غربيّةٍ طامعة, ومن مؤسّساتٍ دوليّةٍ تشلّ حركة البلاد, وتتحكّم بمصير العباد, وتحول بينهم وبين النّهوض والارتقاء, وتبقيهم عبيدًا للقوى الكبرى, قاموا بذلك بذريعة أنّ هذه الطريقة الممكنة للتّغيير, في ظلّ هيمنة الدّول الكبرى على الأوضاع في بلادنا, فكان جلّ ما قاموا به إجراء تعديلاتٍ دستوريّةٍ وقانونيّةٍ شكليّة, لا ترضي الله ولا عباده, ولا تعدو كونها محاولاتٍ رخيصة, كتلك التي يجريها أسلافهم البائسون, ومن الأمثلة على ذلك ما جعل رئيس مصر "محمّد مرسي", يتعهّد بالتزام كافّة المواثيق والعهود والاتّفاقات الدّوليّة, بما فيها كامب ديفد تلك الاتّفاقيّة, التي تقرّ وتحمي أمن يهود في فلسطين, مع الاحتفاظ بسفارتهم في قلب القاهرة وحمايتها, ومغازلة أحد قياديّي الإخوان البارز "عصام العريان", الذي يغازل اليهود, ويعرض عليهم العودة إلى مصر!


الإخوة الكرام: وبدأ الإخوان بالتّبرير, وإذا ما سئلوا عن الشّرعيّة, وعن تطبيق الإسلام قالوا: لا نستطيع ذلك, مصر جائعة, مصر مغزوّةٌ بالفقر والبطالة, مصر عاجزة, فيها علمانيّون, والكفر أقوى منّا ويحاربنا, ثمّ يمارسون الخداع والتّدليس بمغالطاتٍ وتحريفات, كمغالطة التّدرّج, فيقدّموا للنّاس مقاصدهم ورؤاهم وأهواءهم, على أنّها مقاصد للشّريعة, ثمّ تجاوزوا الأمر مسرعين, إلى مبادئ الشّريعة, واستلهام الشّريعة, وما إلى ذلك من تلبيساتٍ واحتيالات! فلماذا مبادئ الشّريعة؟ وكلّيات الشّريعة؟ ومقاصد الشّريعة؟ وحكمة الشّريعة؟ وليس الشريعة ذاتها؟ لماذا هذا الالتفاف والتّحايل على الشّريعة؟ لماذا هذه المواربة؟ ولماذا هذا الزّيغ والانحراف عن منهج الله؟


الإخوة الكرام: كلّ ذلك أدّى إلى خطف الثّورة من مصر, بل اختطفت مصر معها, ووضعت مصر دولةً وشعبًا بعد الثّورة, في قطار العلمانيّة الأمريكيّة, وفي مقطورةٍ اسمها الإسلام الوسطيّ أو المٌعتدل. إنّ الحكّام الذين حكموا باسم الإسلام المعتدل, أساؤوا لأنفسهم بالتّنصّل من تحكيم شرع الله؛ خوفًا من استعمارٍ هزيلٍ بدا ضعفه, واشتدّت أزماته. وأساؤوا للمسلمين بتضليلهم بأنّ لديهم بديلاً إسلاميًا, فاستدرّوا عواطف الجماهير المتعطّشة إلى الإسلام!


لقد بان مكر الغرب الكافر المستعمر, وحقده على الإسلام في كلّ عصرٍ, ولقد رأى جميع النّاس ما فعله في مصر, فالمستعمر منذ أن أسقط دولة الخلافة ومزّق الأمّة, لا يطيق سماع اسم الإسلام, ولا يطيق أن يرى أثرًا من آثاره, وبعد حكم صوريٍّ باسم الإسلام, حكم به الإخوان لمدّة عام, أثبت الواقع فشل سياستهم, ممّا جعل أمريكا تتدخّل هي وحليفها الاستراتيجيّ والوحيد في مصر, والذي تعتمد عليه دائمًا, واعتمدت عليه بعد سقوط مبارك, ألا وهو المجلس العسكريّ, فحدث ما كان متوقّعًا من الانقلاب العسكريّ, في الثّالث من تمّوز عام ألفين وثلاثة عشر ميلاديّة, بعد أن مهّد له من قبل المجلس العسكريّ والإعلام, وبعض المثقّفين العلمانيّين والأزهر.


فبعد مدارسةٍ كاملةٍ تبيّن لهم أنّ الحال في مصر, اقتصاديًا وسياسيًا وإعلاميًا, بعد الانقلاب زمن حكم الإخوان, لم يكن بأفضل ممّا كان عليه زمن مبارك, فقد عادت الدّولة البوليسيّة القمعيّة بوجهٍ كالح, وليس العدوّ هو الإخوان وحدهم, ولكنّ العدوّ هو كلّ من يخالف الانقلابيّين في مصر, حتّى وإن كان علمانيًا أو ليبراليًا أو إسلاميًا, فعزل محمّد مرسي ببيانٍ من رئيس الانقلاب عبد الفتّاح السّيسيّ, وبمباركة الأزهر والكنيسة, والمجلس الأعلى للقضاء, وحزب النّور السّلفيّ, ففرض حظر التّجوال, وتمّ تفعيل قانون الطّوارئ, وتمّ اعتقال أكثر من خمسة عشر ألفًا, من الشّباب والشّيوخ والأطفال, حتّى وصل الاعتقال إلى طلاب الجامعات, وأغلقت كثيرٌ من المساجد والزّوايا, وأحرقت الجثث والجرحى, وأحرق مسجد رابعة العدويّة, وحوصر مسجد الفتح بوسط القاهرة, ومسجد القائد إبراهيم بالإسكندريّة, وأصبحت القاهرة وكثيرٌ من المحافظات عبارةً عن ثكنةٍ عسكريّة, وخرج الأزهر وشيخه بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان. فتاوى تجيز قتل الإخوان ومن ناصرهم وأيّدهم, واعتبار أنّهم خوارج, بل وصل الأمر ببعضهم مثل الشّيخ أحمد كريمة, من علماء الأزهر إلى أن يقول: هؤلاء مرتدّون. وقد سمع جميع النّاس التّسريبات التي خرجت, من داخل الشّؤون المعنويّة للقوّات المسلّحة, بفتاوى علي جمعة, وسالم عبد الجليل, وعمرو خالد وغيرهم.


الإخوة الكرام: وأخيراً نخلص إلى أنّه لا يوجد إلا طريقةٌ واحدة, لإقامة الدّولة الإسلاميّة, ومن أهمّ مراحل هذه الطّريقة, هو طلب النّصرة من أهل القوّة والمنعة, فأهل القوّة في مصر هم قادة الجيش, وليس أحدٌ غيرهم, والأحداث الأخيرة والتي سبقتها أثبتت ذلك. فالجيش في مصر يعدّ القوّة والرّكيزة الأساسيّة للدّولة, والمهيمن عليها, كما يمنح الاقتصاد المصريّ للجيش, ما يقرب من أربعين في المئة من الميزانيّة, بحسب بعض الأبحاث, ولا يجرؤ أحد, فضلاً عن أنّه لا يحقّ له, مساءلة الجيش حول ميزانيّته؛ لذلك كان الجيش العامل الحاسم, في استقرار أيّ نظامٍ سياسيٍّ في مصر, ولهذا اتّخذته واشنطن, الرّكيزة الأساسيّة لحفظ نفوذها, وذلك بعد أن عملت على اختراقه مبكّرًا, حين كان انقلاب الضّباط الأحرار على الملك فاروق, عام ألفٍ وتسعمئةٍ واثنين وخمسين ميلاديّة. كما نجحت بإحكام قبضتها على الجيش بعد اتّفاقيّة كمب ديفد, بعد أن ربطته بها تمويلاً وتسليحًا وتدريبًا, بما مكّنها من إعادة تشكيله, وإدخال تغييراتٍ جوهريّة, على هويّته وبنيته وعقيدته, حيث عزلت واشنطن مصر, عن الصّراع العربيّ مع الكيان اليهوديّ, وأسقط اليهود من قائمة الأعداء, واستبدلت بعداوتهم عداوةٌ مفرطةٌ لتيّار الإسلام السّياسيّ, بذريعة محاربة الإرهاب, وصارت مهمّة الجيش تنحصر في إبقاء مصر تابعة لأمريكا, وفي محاربة ما يسمّى التّطرّف والإرهاب, والحفاظ على أمن يهود.


الإخوة الكرام: ولأهمّية دور الجيش, سارعت واشنطن بالتّضحية بحكم مبارك؛ لاستيعاب غضبة الجماهير, ولإبقاء الجيش متحكّمًا في المشهد السّياسيّ. كما أنّها تقوم بمتابعة شؤون الجيش المصريّ بشكلٍ منتظم, من خلال إدارة المنح العسكريّة السّنويّة الضّخمة, البالغة أكثر من مليار دولارٍ سنويًا, والتي تجعل من شركات الأسلحة والأمن الأمريكيّة, قادرةً على الاطّلاع التّام, على أوضاع الجيش والتّأثير في شؤونه. وقد عهدت بعد الانقلاب الأخير, الذي أطاح بحكم الإخوان, إلى وزير الدّفاع الأمريكيّ, ليكون قناة الاتّصال الرّئيسة, وبشكلٍ يوميٍّ مع وزير الدّفاع المصريّ, الذي يمسك بزمام الأمور.


الإخوة الكرام: لذلك كلّه كان لا بدّ لأيّ طرف, يبتغي ضرب النّفوذ الأمريكيّ في مصر, من كسب ولاء الجيش, أو العمل على تحجيمه في الدّولة وتحييده عن الحكم, وبهذا نجد أنّه من غير إعادة صياغة عقيدة الجيش المصريّ وهويّته وولائه, وتشكيلها بحسب مفاهيم الإسلام وأحكامه, ستبقى مصر خاضعةً للنّفوذ الأمريكيّ, وسيبقى الجيش مطرقةً بيد الغرب, يضرب فيها كلّ من يتصدّى لمشاريعه الاستعماريّة. نعم إنّ مصر اليوم مخطوفةٌ في قطارٍ أمريكيّ, وهي إمّا أن تذهب أبعد من ذلك, فتصبح كطائرةٍ أمريكيّةٍ بلا طيّار, تضرب بها أمريكا الإسلام هنا وهناك باسم محاربة الإرهاب, وحينئذٍ ستكون تكاليف عودة مصر لتكون كنانة الأمّة, وكنانة الإسلام, وكنانة الله في أرضه, ستكون تكاليف عودتها صعبةً جدًا, وداميةً جدًا! وإمّا أن يتذكّر من له من الأمر قولٌ أو باع, ويتبصّر أولوا التّقوى والنّظر ممّن لهم تأثيرٌ أو أتباع, فترجع مصر عاصمة الإسلام! وإنّ الأمل معقودٌ على ثلّةٍ من المؤمنين العاملين, أن يفتح الله سبحانه وتعالى عليهم وينصرهم, ويجزيهم خير الجزاء, وعلى خيرة أهل مصر أن تتّقد وتشتعل فتقلب الأمور رأسًا على عقب, وما ذلك على الله بعزيز, قال تعالى: (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون). (سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين, وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين). صدق الله العظيم. نشكركم على حسن استماعكم, والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 


أخوكم صلاح الشافعي

إقرأ المزيد...

حقوق الإنسان حصان طروادة الكفار الرأسماليين المستعمرين

  • نشر في ثقافي
  • قيم الموضوع
    (0 أصوات)
  • قراءة: 2032 مرات


موجة احتفالات باليوم العالمي لحقوق الإنسان تجتاح العالم هذه الأيام للترويج لمبادئ حقوق الإنسان، وتسليط الضوء عليها باعتبارها المثل العليا والضامن الحقيقي لاستقرار وأمن ورفاهية المجتمعات، احتفال السودان يأتي هذا العام وما زال تصنيفه ضمن دائرة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، وذلك منذ التسعينات، بسبب رفع بعض شعارات الإسلام كالجهاد في جنوب السودان وضبط بعض مظاهر الحياة العامة، وعلى الرغم من تخلي النظام الحاكم عن هذه الشعارات، وعن جنوب السودان، لكن ما زال شبح العقوبات يلاحقه خاصة في ظل حروب يخوضها النظام ضد مجموعات مسلحة في أكثر من مكان.


وقد خاطب الاحتفال في اليوم العالمي لحقوق الإنسان - محمد بشارة دوسة وزير العدل قائلاً: "إن السودان دولة تحترم حقوق الإنسان الذي كرمه الله من خلال القرآن الكريم بالإضافة إلى احترامه للمواثيق الدولية باعتبارها حقوقًا لكل إنسان". وقال: "إن السودان تقدم كثيراً في هذا المجال على الرغم من نظرة البعض لهذا الإنجاز بصورة سلبية في المحيط الإقليمي والدولي"، وأكد دوسة أن "السودان من خلال الخطة العشرية وتوصيات الشراكة كلها قضايا نضع لها خططاً من أجل تنفيذها والسعي إلى تعزيز حقوق الإنسان من خلالها". وقال دوسة "إن زيارة الخبير الخاص بحقوق الإنسان للسودان حالياً تأتي للوقوف على أوضاع حقوق الإنسان، ونحن نفتح له كل الأبواب لينظر لقضايا حقوق الإنسان بصورة موضوعية لأن أكبر ضامن لحقوق الإنسان هو المواطن السوداني."


ولكي نقف على حقيقة حقوق الإنسان فلا بد من معرفة المبدأ الذي تقوم عليه، والأفكار والمفاهيم التي تعالَج بها القضايا حتى يجوز لنا أن نقبلها ونحتفل بها ونفتح لها أبوابنا أو نرفضها ونوصد الأبواب دونها.


إن من الشعارات البراقة التي ترفعها أميركا والغرب بشكل عام، ويعملون على حمل المسلمين على أخذها وتبنّيها «حقوق الإنسان». وهذا الشعار له بريق أخّاذ في عيون الكثير من أبناء المسلمين، بسبب ما يلاقونه على أيدي حكامهم من ظلم وبطش واضطهاد تعدى استعباد فرعون لبني إسرائيل، ما جعلهم يتشوقون إلى كل ما من شأنه أن يعتقهم دون تفكير في حقيقته ومآلاته. وأصل هذه الحقوق نظرة المبدأ الرأسمالي لطبيعة الإنسان، وللعلاقة بين الفرد والجماعة، ولواقع الـمجتمع، ووظيفة الدولة. ففي نظرته لطبيعة الإنسان، يَرى هذا المبدأ أن الإنسان بطبيعته خيّر وليس شريراً، وأنّ الشر الذي يصدر عنه سببه تقييد إرادته. ولذلك ينادي الرأسماليون بإطلاق إرادة الإنسان حتى يعبّر عن طبيعته الخيّرة. ومن هنا نشأت فكرة الحريات التي أصبحت أبرز أفكار المبدأ الرأسمالي ولكن هذه النظرة الموغلة في الضلال قادته إلى أوضاع كارثية ما زال يعاني منها بسبب هذه الحريات التي أصبح بموجبها يفعل الإنسان ما يخالف كل دين وخلق ونزل إلى درك البهيمية.


والنظرة الصحيحة لطبيعة الإنسان هي أنه لديه غرائز وحاجات عضوية تتطلب الإشباع. وبفضل ما وهبه الله من عقل، صارت لديه الإرادة ليختار الطريقة التي يُشبع بها غرائزه وحاجاته. فإنْ أشبعها بطريقة صحيحة يَفعل الخير، وإن أشبعها بطريقة خاطئة أو شاذة يَفعل الشر. فالإنسان بذلك مهيَّأ بطبيعته للخير والشر معاً، وهو الذي يختار الخير أو الشر بإرادته. وهذه هي النظرة التي يقول بها الإسلام، والتي بيّنها سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاها فَألْهَمَها فُجورَها وتَقْواها﴾؛ وقوله: ﴿وَهَدَيْناه النَّجْدَيْن﴾. فالمسالة إذنْ ليست في إطلاق حريات ولكن في معالجة الغرائز والحاجات العضوية بنظام عادل يأتي من جهة غير الإنسان وغير الواقع بل ممن يحيط بهم وهو الخالق سبحانه وتعالى.


أما بالنسبة للعلاقة بين الفرد والجماعة، فالرأسماليون يقولون إنها علاقة تناقُض، ولذلك لا بد من حـماية الفرد من الجماعة، وتأمين حرّياته وحـمايتها، وجعلوا وظيفة الدولة الأساسية تأمين هذه المصلحة وصيانتها. أي إن الدولة وسيلة وليست غاية.


وفي نظرتهم للمجتمع قالوا إنه مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه، فإذا ما تمّ تأمين مصالح الفرد، تأمَّنت مصالح الـمجتمع بشكل طبيعي. وهذه نظرة خاطئة لأن العلاقة الصحيحة هي كما صَوَّرَها الإسلام من أنها علاقة عضوية وعلاقة تكامل، وليست علاقة تناقُض. فالفرد جزء من الجماعة مثلما أن اليد جزء من جسم الإنسان. وكما أن الجسم لا يستغني عن اليد، فإن اليد لا قيمة لها إذا انفصلت عن الجسم.


والإسلام جَعل للفرد حقوقاً وللجماعة حقوقاً، وهذه الحقوق ليست متضاربة ولا متناقضة بل متكاملة تقود إلى تعاون مثمر. كما رتَّب على كل منهما واجبات تجاه الآخر، وأناط بالدولة تأمين التوازن بين الطرفين بحيث لا يطغى أي منهما على الآخر. فكل منهما يجب أن ينال حقوقه ويؤدي واجباته. وليس هناك ما هو أروع في وصف العلاقة بين الفرد والجماعة مما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ القائِمِ على حُدودِ الله والواقِعِ فيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سفينةٍ فأصابَ بعضُهُم أعْلاها وبعضُهُم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقوْا من الماء مَرّوا على مَن فوقَهم، فقالوا: لو أنّا خَرَقْنا في نصيبِنا خَرْقاً ولم نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يتركوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعاً، وإنْ أخَذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جـميعاً».


إن قول الرأسماليين بأن الـمجتمع ما هو إلا مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه فهو مجانِب للصواب. فالمجتمع ليس مجموع الأفراد الذين يعيشون فيه، وإنما هو هؤلاء الأفراد والأفكار والمشاعر السائدة بينهم والنظام المطبَّق عليهم. أي هو أفراد بينهم علاقات دائمية. فرُكّاب سفينة أو قطار ليسوا مجتمعاً حتى وإن بلغوا الآلاف، في حين يشكّل سكان قرية صغيرة مجتمَعاً حتى لو لم يتجاوز عددهم المئات.


وبهذا يتبين خطأ المبدأ الرأسمالي في فهم واقع الـمجتمع، وخطؤه في فهم طبيعة الإنسان، والعلاقة بين الفرد والجماعة.


أما خطؤه في فهم وظيفة الدولة فهو أكثر وضوحاً. فالدولة ليست وسيلة لتأمين مصالح الفرد وحـمايتها فقط، بل هي الكيان الذي يَرعى شؤون الفرد والجماعة والـمجتمع ككل داخلياً وخارجياً وفق نظام معيَّن يحدِّد حقوق الجميع وواجباتهم، إضافة إلى حمل رسالتها للعالم، إذا كانت لها رسالة إنسانية، أي تصلُح للإنسان بوصفه إنسَاناً بغض النظر عن أي اعتبار آخر. وحقوق الإنسان مبنية على المبدأ، وهي أُس البلاء في الـمجتمعات الرأسمالية، التي تحوّلت بسببها إلى غابات وحوش يَأكل القوي فيها الضعيف وينحدر فيها الإنسان إلى درك الحيوان، نتيجة لإطلاق العنان لغرائزه وحاجاته العضوية. فالناس في الـمجتمعات الرأسمالية أشبه بالبهائم، همّهم التمتع بأكبر قسط من المتع الجسدية، الأمر الذي يعتبره المبدأ الرأسمالي قمة السعادة، رغم أن الحقيقة هي أن هذه الـمجتمعات لا تعرِف للسعادة طعماً، بل يَعُمّها الشقاء والاضطراب والقلق الدائم.

 


والحريات التي يدعو لها الغربيون هي:


1/ حرية العقيدة: وهي أن للإنسان الحق في أن يؤمن بأي مبدأ وأي دين، وأن يكفر بأي دين وأي فكرة، وله أن يبدّل دينه، وله أن لا يؤمن بدين على الإطلاق، ما أوجد عبدة الشيطان والملحدين وكل أصناف الضلال.


2/ حرية الرأي: وهي تعني عند الرأسماليين أن للإنسان الحق في أن يقول ويُعلِن أي رأي في أي شيء وأي أمر دون قيود. وهذه الحرية لها جاذبيتها عند بعض المسلمين، نتيجة لعيشهم في دول قمعية (بوليسية) تَمنع أي شخص من أن يقول برأيه إذا كان يخالف رأي الحاكم، حتى لو كان رأيه هذا مستمَداً من الإسلام، بل حتى لو كان ما يقوله آية قرآنية أو حديثاً شريفاً، ما دام مضمون الآية أو الحديث يناقِض رأياً يقول به الحاكم، أو سياسة يتبعها، لدرجة أن أحد حكام المسلمين أمر أجهزته القمعية بنزع آيات وأحاديث عن جدران المساجد والأماكن العامة وتمزيقها لـمجرّد أنها تبيّن حقيقة اليهود كقوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَداوةً للذين آمَنوا اليَهودَ والذين أشْركوا﴾.


إن حرية الرأي تعني السماح للعملاء والمنافقين والفجّار وأعداء الإسلام بالدعوة ضد الإسلام، وهدم كيان الأمة وتمزيقها إلى قوميات ودويلات وطوائف وفئات، وما إلى ذلك من دَعَوات تقوم على عصبيات جاء الإسلام ونبذها، وحرّم على المسلمين المناداة بها، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بأنها منتِنة. كما تعني السماح لهم بالدعوة لأفكار الكفر التي تروِّج لانحلال النساء، والرذيلة، والفساد، وتقويض قيم الشرف والعرض. ويكفي أن يتذكر المرء ما سمحت به هذه الحرية للمرتد سلمان رشدي من أن يقوله بحق النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ليدرك حقيقة هذه الحرية.


صحيح أن الإسلام أباح للمسلم أن يقول برأيه في كل شيء وفي كل أمر، ولكنه قيّده بأن يكون رأيه هذا منبثقاً عن العقيدة الإسلامية أو مبنياً عليها، وضِمْنَ ما أباح الإسلام الخوض فيه. فله أن يقول بأي رأي ولو خالف رأي الخليفة وما يتبنّاه، ولو خالف رأي معظم المسلمين، شريطة أن يكون رأيه هذا مستنداً إلى دليل من الشرع، أو ضمن حدود الشرع. بل إن الإسلام أوجب على المسلم أن يقول برأيه، ويحاسِب الحاكم إذا ظلم أو قال أو أمر بما يُغضِب الله، بل وجعل عمله هذا في مرتبة سَيِّد الشهداء.


3/ ِأما حرية التملك، فيَقصد بها الرأسماليون أن للإنسان الحق في أن يتملك ما يشاء كما يشاء، وأن يتصرف بما يملك كما يشاء، شريطة أن لا يتعدى في ذلك على حقوق الآخرين، أي التي يعتبرها النظام الرأسمالي حقاً لهم. وهذا يعني أن للإنسان أن يتملك كل شيء، ما أحَلّ الله تملكه، وما حَرّم، وله أن يتصرّف بما يَملك كما يشاء، سواء تقيَّد في ذلك بأوامر الله ونواهيه أو لم يتقيّد.


فحسب حرية التملك للإنسان أن يملك المال بالربا والقمار وبيع الخمور والتغول على الملكية العامة التي هي حق لكل الناس، فله أن يملك آبار نفط أو مناجم ذهب، ونتيجة لحرية التملك هذه نشأت الجريمة المنظمة )المافيا) والتي تقف الدول الغربية عاجزة عن إيجاد أي علاج لها.


4/ الحرية الشخصية: وهي الحرية الرابعة التي يدعو لها النظام الرأسمالي ويعمل لتحقيقها وصيانتها. وهي تعني حسب هذا النظام أن لكل إنسان الحق في أن يعيش حياته الخاصة كما يشاء، شريطة عدم التعدي على الحياة الخاصة للآخرين. فله أن يتزوّج، وله أن يعاشِر أي امرأة دون زواج ما دام ذلك برضاها. وله أن يمارِس الشذوذَ الجنسي ما دامت هذه الممارسة ليس فيها طرف قاصر. وللإنسان حسب الحرية الشخصية أن يأكل ويشرب ويلبس ما يشاء ضمن حدود النظام العام، ولا وجود عند الرأسماليين المنادين بهذه الحرية لحرام أو حلال في السلوك الشخصي للإنسان، ما دام هذا الإنسان مؤهلاً للتصرف قانونياً، الأمر الذي يتفاوت بين مجتمع وآخر ومن حين لآخر.


ولا أثر للدين في هذه الحرية. فالنظام منفصل عن الدين حسب الشرعة الرأسمالية. ونتيجة لتطبيق هذه الحرية في الـمجتمعات الرأسمالية انتشرت الرذيلة، وأصبح الرجال والنساء يعيشون مع بعضهم دون رباط شرعي، بل ويعيش الرجال مع الرجال والنساء مع النساء، ويقيمون علاقات شاذة فيما بينهم وتحت حـماية القانون ومباركة الكنيسة. وقد تفشّى الشذوذ الشخصي وليس الجنسي فقط في الـمجتمعات الرأسمالية نتيجة للحرية الشخصية، وظهرت صرعات لا تخطر على البال. وما الأفلام والـمجلات الإباحية، وخدمات الهاتف الجنسية، ونوادي العراة، والهيبيون وأمثالهم، إلا شاهد على الانحراف والشذوذ اللذين تردَّت فيهما الـمجتمعات الرأسمالية بفضل الحرية الشخصية.


إن هذه كلها عندهم مطيةٌ للتدخل في شؤون الدول المستضعفة التي لا تملك أن تقول لهم لا، وإلا لماذا تغيب حقوق الإنسان عندما ترتدي مسلمة في بلد الحريات زيها الشرعي؟


وهي جميعها مناقِضة للإسلام، ولا يجوز قبولها أو الدعوة لها. وهذه الحريات هي الأصل الذي انبثقت عنه ما تُسمَّى «حقوق الإنسان»، التي تدعو لها أميركا، كما يدعو لها ويتباهى بها بعض حكام المسلمين ومَن حولهم من الـمحسوبين على الإسلام، إلى جانب المضبوعين بثقافة الغرب، والمضلَّلين من السُّذَّج. ومَن يدعو لها من المنتمين للإسلام فهو إما جاهل، وإما فاجر، وإما كافر. فمَن لا يُدرِك تناقض «حقوق الإنسان» مع الإسلام، ولكنه يدعو لها عصياناً وفسقاً فإنه فاجر، وأما مَن يؤمن بها كما هي على حقيقتها، أي باعتبارها منبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة التي هي عقيدة كفر، ويدعو لها على هذا الأساس، فإنه كافر دون أدنى ريب، لأنه والحالة هذه لا يعتنق عقيدة الإسلام. وهذا ليس تكفيرا لأحد بل وصف واقع من يعتقد بهذه الحريات.


و«حقوق الإنسان» بهذا المسمى نادت بها الثورة الفرنسية (1789م) وألحقتها كوثيقة في دستورها الذي صدر عام 1791م. ومِن قَبْلها نادت بهذه الحقوق الثورة الأميركية (1776م). وإجمالاً فإن سائر الدول الأوروبية تبنّتها في القرن التاسع عشر. غير أنها ظلت شأناً داخلياً لكل دولة.


ولم تتحوّل «حقوق الإنسان» إلى شِرعة دولية إلا عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد إنشاء الأمم المتحدة، وذلك عام 1948م حين صدر «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وفي عام 1961م أُلحِق به ما سُمِّي «العهد الدولي بشأن حقوق الإنسان المدنية (القانونية) والسياسية». كما صدر في عام 1966م ما سُمِّي «العهد الدولي بشأن حقوق الإنسان الاقتصادية والثقافية والاجتماعية».


غير أنها ظلّت شِرعة دولية فقط، ولم يبدأ العمل لجعلها شرعة عالمية، أي شرعة تتبناها الشعوب وليس الدول فقط إلا عام 1993م، أي بعد عاميْن من سقوط الاشتراكية وتفرُّد المبدأ الرأسمالي دولياً. فقد انعقد في (فينّا) مؤتمر في ذلك العام، صدر عنه ما سُمِّي «إعلان (فينّا) للمنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان»، الذي أوصت مجموعة العمل فيه بالتأكيد على «عالمية حقوق الإنسان»، وتطبيقها بالتساوي على مختلف الأنماط الثقافية والقانونية، ورفْض الادّعاء بأن هذه الحقوق تتباين بين مجتمع وآخر. وهذا يعني رفْض أخذ الإسلام بعين الاعتبار عند تطبيق «حقوق الإنسان» في بلاد المسلمين.


وللتأكيد على «حقوق الإنسان» كشرعة دولية، اتخذتها الولايات المتحدة ركيزة من ركائز سياستها الخارجية، وذلك في أواخر السبعينيات (في عهد الرئيس كارتر). وصارت وزارة الخارجية الأميركية منذ ذلك الحين تُصدِر تقريراً سنوياً حول تقيّد دول العالم بتطبيق هذه الحقوق، ومدى السماح لرعاياها بممارستها. ودأبت منذ ذلك الحين على اتخاذ مواقف من الدول التي تَرى واشنطن أنها لا تتقيد بمقتضيات هذه الحقوق. ومِن ذلك ربطها بين مبيعات القمح الأميركي للاتحاد السوفييتي وبين سماحه بهجرة اليهود السوفييت إلى كيان يهود في فلسطين. كما اتخذت أميركا «حقوق الإنسان» ذريعة للتدخل العسكري في هاييتي عام 1994م. وكما هو حال السياسة الخارجية الأميركية بوجه عام، فإن سياسة واشنطن المرتكِزة على «حقوق الإنسان» تجاه دول العالم انتقائية. فهي تغض الطرْف عن خرق هذه الحقوق في الدول التي ترى أن من مصلحتها عدم إثارتها معها، وتكتفي إزاء بعض الدول بالتنديد الكلامي كما في سوريا التي يباد شعبها على يد سفاح الشام بشار وأمريكا تعطيه المهلة تلو المهلة ما دامت لم تجد له بديلاً يحقق مصالحها، بينما تتخذ إزاء دول أخرى إجراءات عسكرية كما فعلت تجاه هاييتي. والآن في غرب أفريقيا التي أعطت الأمم المتحدة لفرنسا في اقتسام للمصالح أعطتها اليد العليا عليها فشنّت حروبًا شرسة في مالي تشرد وقُتل على أثرها الكثير من الناس، وها هي في أفريقيا الوسطى والحبل على الجرار.


غير أن الأصل في رفض «حقوق الإنسان» مِن قِبل المسلمين هو كونها من المبدأ الرأسمالي بعقيدته الفاسدة، وكونها تعبيراً عن نظرة هذا المبدأ للفرد والـمجتمع، وأنها تفصيل للحريات الأربع التي نادى بها، فعقيدة هذا المبدأ وكل الأفكار النابعة منها أو المبنية عليها تتناقض مع الإسلام جـملة وتفصيلاً، ويجب على المسلمين نبذها ودحضها والتصدي لمروِّجيها.

 


كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم أواب/ غادة عبد الجبار

 

* الاقتباس في المقال من كتاب الحملة الأمريكية للقضاء على الإسلام الذي أصدره حزب التحرير.

 

إقرأ المزيد...

جواب سؤال : رفض الأب لعمل قُدِّم لابنته

  • نشر في الأمير
  • قيم الموضوع
    (0 أصوات)
  • قراءة: 4624 مرات

أود أن أسألك عن أمر يتعلق بعمل قُدم لي لكنّ والدي رفض من وجهة نظره بأن هذا المجتمع فاسد، وأن واجبه كأب أن يحافظ على ابنته ويحرص عليها من الأمور الخبيثة التي يتداولها بعض أفراد المجتمع.

إقرأ المزيد...

  فلسطين: نداء الأقصى "أهل الشام بين صقيع الثلوج وتخاذل الحكام" للأستاذ أحمد دويك الجمعة، 17 صفر 1435هـ الموافق 20 كانون الأول/ديسمبر 2013م  

  • نشر في منبر رسول الله
  • قيم الموضوع
    (0 أصوات)
  • قراءة: 1214 مرات
الاشتراك في هذه خدمة RSS

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع