- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
المشكلة الأولى للأمة الإسلامية اليوم
افتقارُها لسياسيين رجال دولة كالخلفاء الراشدين
تتزايد تساؤلات المسلمين اليوم في كل أصقاع الأرض، مفكرين وعلماء وعوام، عن أسباب العجز المريب والشامل عن مواجهة المجازر وصنوف أنواع الإبادة الجارية في أهل غزة، ويظهر هذا في مقالات وخطب، ورسائل حوارات لا تنحصر. وقد بلغ العجز والقهر أوجَهما مع تساؤلات محيِّرة ومستفِزة، حتى عند الأطفال ومن بالكاد يسمع أو يعقل، لماذا نحن هكذا؟ لماذا الأمة الإسلامية والمليارية هكذا؟ فهل كل السبل مسدودةٌ أمامنا فعلاً؟! أما من حلّ؟! أما من إمكانية تحركات تغيث غزة وأهلها، فضلاً عن أن تقضي على كيان يهود هذا وتستأصله من شأفته؟!
إنَّ مشكلة الأمة في غزة اليوم ليست الأولى في زمن الذلِّ هذا ولا الأخيرة بين فتن تتوالى عليها، وليست هي الأصعب أمام تطلعها وتملمُلِها لتتخلص من هذا العجز والاستضعاف والإذلال. فقد مرَّ عليها الكثير مثلها عبر التاريخ، وخلال القرن الفائت، وهي اليوم مستمرة وتزداد.
وإذا مرت فترات كانت أسباب مشكلات المسلمين ونكباتهم ترجع إلى أشياء عندهم وفيهم، كالتيه والجهل بحقيقة هويتهم ورابطتهم، أو التنكُّر لبعض أحكام الإسلام، وإلى خذلان بعضهم بعضاً، فالوقائع تؤكد أن الأمر اليوم مختلف إلى حدٍّ كبير. فعجز الأمة اليوم، سواءٌ عن إغاثة غزة، أو عن أيِّ فعل مؤثر في مواجهة هذا الظلم الرهيب، لا يرجع إلى خذلان أو عدم اكتراث، ولا إلى وهن أو جبن أو قلة دين، بل هو يرجع إلى العجز عن تصور سبيلٍ للخروج من هذا الواقع، وإلى ضعفِ التفكير وقلة المعرفة والخبرة في وضع خطط للحل. وإذا كان طبيعياً أن يصيب هذا الأمر عامة الناس لأنهم مستضعفون كما جاء في قوله تعالى: ﴿إلّا المُسْتضْعفينَ منِ الرجَالِ والنِساءِ والوِلْدانِ لا يَسْتَطيعونِ حِيلةً وَلا يَهتَدونَ سَبيلاً﴾، فمن غير الطبيعي أن تخلو الأمة من أعداد كافية من الرجال القادرين على استشراف المشكلات والأخطار العامة والتحذير منها قبل وقوعها واستفحال أمرها، وكذلك تقديم الحلول العملية لمواجهتها ومعالجتها، وهذا هو العمل السياسي الأرقى، وهؤلاء هم رجال الدولة.
وهذه المشكلات مشكلات سياسية، وحلولها هي خطط وتوجيهات سياسية بأعمال تنقاد لها الأمة وقواها. وهذا يحتاج لأفكار وخطط يقدمها سياسيون فقهاء، أي سياسيون بالدرجة الأولى، فلا يكفي في ذلك علماء أو وُعّاظ ومفتون وشرّاح متون. ومواقف العجز التي تلف الأمة اليوم من أقصاها إلى أقصاها في حمأة هذه المشاهد والمجريات التاريخية والمصيرية، مع كثرة العلماء على اختلاف مذاهبهم، وفي ظل انتشار صحوة إسلامية تصاعدت في العالم منذ أكثر من أربعة عقود، يؤكد أن مشكلة الأمة الأولى اليوم، ليست في نقص العلم والعلماء، ولا في عدم التزام المسلمين أو عدم اكتراثهم لنصرة بعضهم بعضاً، بل هي في الحيرة وعدم الاهتداء إلى ما العمل وكيفية نصر غزة وكيف ينتصر المسلمون بعضُهم لبعض. أي أن المشكلة هي القحط أو شبه انعدام وجود رجال دولة على أساس الإسلام، وبالتالي انعدام الحلول العملية المباشرة للمشكلات والنوازل، كالتي نقاسيها الآن في غزة. وإذا أردنا علاجاً حقيقياً ومسؤولاً لهذه المشكلات بل النكسات والمجازر المتلاحقة، ولأي مشكلة أو قضية عامة، فالخطوة الأولى في الحلول وخط سير التغيير هي إيجاد سياسيين رجال دولة. وبغير ذلك، لا حصاد لبَذر، ولا دوامَ لنصر، وكلُّ نصرٍ ينقلبُ إلى ضده.
ولا تختلف أسباب هذا العجز أو قلة الحيلة رغم حجم الأمة الإسلامية وطاقاتها المعطّلة، عما كانت عليه الأمة إبّان هدم الخلافة وقبلها، حيث كانت تنفعل مفعولاً بها وضعيفة الفعالية، رغم أنها كانت دولة كبيرة، فضلاً عن أنها دولة الأمة الإسلامية. ولهذا أكّد السياسيُّ الفقيه تقي الدين النبهاني رحمه الله افتقار الأمة الإسلامية إلى رجال الدولة الذين يعالجون المشكلات منذ ما قبل هدم الدولة الإسلامية. وقال إن الدولة الإسلامية كانت منذ إقامتها عامرة بحشد من رجال الدولة، ولكن في القرن الـ18 بدأ يدب القحط في إنبات عقليات الحكم، فقلّ عدد رجال الدولة. وعرَّف رجل الدولة بأنه: "القائد السياسي المبدع، وأنه كل رجل يتمتع بعقلية الحكم، وهو يستطيع إدارة شؤون الدولة ومعالجة المشكلات والتحكم في العلاقات الخاصة والعامة". وأضاف أنّه عندما هُدمت الخلافة لم يقف الأمر عند حد القحط، بل انعدمت الخواص التي تُنبت رجل الدولة، ولم تعد الأمّة الإسلامية تنجب رجالاً لهم عقليات الحكم، ولذلك انتهى وجودهم في الأمّة، لأنّ رجل الدولة لا ينبت إلا في وسطٍ فكريٍّ وسياسيٍّ راقٍ. وبيَّن أن أهمية رجل الدولة هي في نظره في الأعمال السياسية التي من شأنها تحقيق أهداف محددة، أي في إطلاق الفكر للإبداع بغير قيود سوى أن تكون الأهداف شرعية، وألّا تتعدى الخطط حدودَ النصوص الشرعية.
لذلك، يجدر التنبيه إلى أنه ليس المراد برجل الدولة أو السياسي، ذلك الذي يحلل الأحداث والسياسات والخطط ويقدم رؤيته لها. فهذا ضروري للسياسي ورجل الدولة، ومن مستلزمات عمله، ولكنه لا يجعل من يقوم به سياسياً فضلاً عن أن يكون رجل دولة. فهذا العمل يقوم به موظف في صحيفة أو مركز دراسات أو مراقب من طبعه فهم الأحداث وتحليل السياسات. وإنما رجل الدولة الذي يهتم بالوقائع وتحليلها وفهمها لإدراك حقيقتها أو خطرها بهدف اتخاذ إجراءات حيال ذلك وفق مقتضيات مبدئه وفقهه وهدفه، كما تبين في وصفه آنفاً.
ومن الشواهد أو الأمثلة على أن هذه هي أهم مشكلات الأمة اليوم، وأهم أسباب المعاناة في طريق تحريكها، أن الإسلام كان هو الحاكمَ في الدولة العثمانية، وكانت الشريعة مطبقة حتى تاريخ سقوطها، بينما كانت خطط إسقاطها تُنسج أثناء ذلك بداخلها وفي عواصم أوروبا. فلم يحُل تطبيق الشرع دون سقوطها، ما يعني أن المشكلة أو الخطر كان في مكان آخر. لقد كان في ضعف التفكير السياسي، أي في الافتقار لسياسيين يحللون سياسات الأعداء، ويرسمون السياسات المضادة، التي تحقق الأهداف أو المقاصد الشرعية. ورجال الدولة هم من يقوم بذلك.
وإذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي عند إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، نجد نهوضاً سريعاً ولافتاً في المدينة المنورة ومحيطها خلال حياة النبي ﷺ، وهذا لا يرجع إلى العقيدة والأحكام الشرعية فقط، بل إلى ذلك أولاً، وإلى سياسة النبي ﷺ وخططه في الرعاية وبناء المجتمع وتحقيق أهداف الدعوة، وكذلك إلى تعليم الصحابة السياسة الشرعية في التطبيق والرعاية. والأمر نفسه يُقال عن المحافظة على المجتمع الإسلامي على يد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وعن انتشار الإسلام السريع في مختلف جهات الأرض، وصعود الدولة الإسلامية على مستوى عالمي. وذلك بطاقاتِ وقدراتِ مجتمعٍ يقوم على أساس العقيدة الإسلامية وشريعتها، وكذلك على السياسة التي نفذها حكامٌ تجسد فيهم فهمُ الشريعة أولاً، ثم البراعة في التفكير السياسي لتحقيق أهدافها، فكانت سياساتهم سياساتٍ شرعيةً بحق، وكان صعودهم سريعاً ومتميزاً بشكل مثيرٍ بل خارق. وقد فهموا هذا كله من سياسة النبي ﷺ في تطبيق القرآن والسنة، وليس من تطبيقهما فقط. وهذا ما يمكن فهمه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. فهو يأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين بعده. ومِن المعلوم أنه لا أحدَ واجبُ الاتِّباع بعده ﷺ، ولا سنةَ غيرَ سنته في التشريع. فتكون سنتهم بمعنى طريقتهم في الحكم، أي في أساليب تحقيق الأهداف أو المقاصد الشرعية. ويترجح هذا الأمر أكثر بقوله ﷺ: «وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ»، ولم يقل "سنة الصحابة". وفي هذا دلالة على أن الأمر يتعلق بأساليب الحكم، أي بخطط وسياسات تطبيق الشريعة وليس فقط تطبيقها، لأن هذه هو ما يميز الخليفة عن غيره. ولذلك، فإن الشرع يأمر ليس فقط بتطبيق الشرع، بل باعتماد السياسات والأساليب المُثلى في ذلك. وبغير ذلك تفقد الجماعة فعاليتها كما حصل عندما أسقطت الخلافة وكما هو حاصلٌ الآن من عجز وجمود.
وعلى ذلك، لا يكفي وجود الأفكار العقدية والأحكام الشرعية وانتشارها لأجل وضع خطط المواجهة وتنفيذها وتفعيل طاقات الأمة والخروج من المآزق. ولا حتى كثرة الفقهاء والمفكرين والمحللين السياسيين، بل لا بد من رسم السياسات واتخاذ الإجراءات التي تفعِّل قدرات الناس وتستثمر طاقاتهم في التغيير وتحقيق الأهداف القريبة والبعيدة. وهذا يحتاج لسياسيين رجال دولة ولتحقيق الكفاية في ذلك.
وهذا ما كان عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ولذلك اتصفت الأمة في عهدهم بما مكنهم من فتح الدنيا بهم. وهو ما يبين للمتصدرين للتغيير والنهضة والأخذ بيد الأمة وقيادتها، أن الواجب ليس فقط فهم الإسلام وتطبيقه، بل اتباع السياسة الشرعية الرشيدة في ذلك. وهذا بخلاف أحوال الأمة إبان انحلال الدولة العثمانية، وبخلاف أحوالها اليوم وهي تقف من أقصاها إلى أقصاها، مليارين وثلث المليار، عاجزةً عن أي فعل يردع المعتدين، أو يواجه سفك دمائها وتدنيس مقدساتها وانتهاك حرماتها، حتى اعتاد المسلمون على تدمير غزة وقتل أهلها بناءً على أن لا حول لهم ولا قوة، ومثل ذلك صارت انتهاكات اليهود للمسجد الأقصى وكأنّ كل واحد من المسلمين يقول وماذا أستطيع أن أفعل؟! وما الفائدة من تحركات مآلها مزيدٌ من الانتهاكات والهدم وسفك الدماء؟!
لا بد من ملاحظة أن الإسلام لا يعمل وحده لأجل الكفاح المحقق لأهدافه، أو لإحداث النهضة وتحقيق الانتصارات والصعود، وحتى لو طُبِّق في دولة قوية، ينتشر فيها العلماء والمفتون، وأقبلت عليه الأمة وانطلق به العُبّادُ والمجاهدون. فلا بد له من رجالٍ مؤهلين يعرفون الطرق وكيفية السير فيها إلى تحقيق الأهداف وإنجاز الأمور، وأن هذا يلزم فيه اعتبار حقائق الأشياء والناس والجماعات والمجتمعات والدول، فيُبدِعون في تحقيق حتى ما كان يُظنُّ أنه غير ممكن، وهؤلاء هم رجال الدولة، وفي مقدمة هؤلاء بعد النبي ﷺ أبو بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، كما في الحديث: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» حديث حسن عن حذيفة بن اليمان، أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. فبأي شيء نقتدي بهما بعده، سوى سياسة الحكم والرعاية، وهما ما عاشا بعده ﷺ إلا حكاماً وخلفاء.
﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الدكتور محمود عبد الهادي